ولد كارلو كلاوديو كامّيلو جوارماني في ليفورنو Livorno (التي تُسَمَّى بالإنكليزية: Leghorn) بشمال إيطاليا، في عام 1244هـ/1828م. كان والده يعمل في التأمين والشحن، ثم تعاطى تجارة الحرير، وبعد خسارته في التجارة قرر الهجرة إلى المشرق، فاختار بيروت التي كانت من أهم المراكز التجارية البحرية في شرقي البحر الأبيض المتوسط إبَّان فترة عهد «التنظيمات الخيرية العثمانية»، وكان ذلك في عام 1266هـ/1850م.
في بيروت اشتغل كارلو بالتجارة؛ لكنها لم تلائمة، فحصل على وظيفة ممثل للبريد الإمبراطوري الفرنسي في القدس. ومن موقعه الجديد هذا بدأ رحلاته في بوادي بلاد الشام، وركَّز جهوده على دراسة سلائل الخيل العربية الأصيلة واشتغل بتجارتها. ويخبرنا بنفسه عن قيامه برحلة إلى الجوف عام 1267هـ/1851م، وكان عمره آنذاك 23 سنة. كما يروي عن معرفته الوثيقة بأغلب شيوخ البدو في بَرِّ الشام والحَمَاد ونواحي الأردن، وبأن نَجْدَاً بقيت في باله حلماً بعيد المنال.
قاده هذا الاهتمام إلى إجادة اللغة العربية، وإلى التكيّف مع حياة البادية، والتمرّس المباشر بالعادات والتقاليد البدوية، ومعرفة اللهجات المحلية للعشائر المنتشرة في شمالي جزيرة العرب. ولم يجد في ذلك صعوبة، خاصة أن بشرته الإيطالية الزيتونية مكَّنته من الاختلاط مع العرب، وأفادته إقامته المطوَّلة في القدس بالتأقلم التام مع العربية وأهلها.
أسفرت هذه الخِبرَات عن تأليفه لكتاب نفيس في معرفة أرسان الخيل العربية، سَمَّاه: الخمسة Al Kamsa نسبة إلى الأرسان الخمسة الأساسية لخيل جزيرة العرب: الكحايل، الصَّقْلاوِيَّات، الحَمْدَانِيَّات، العُبَيَّات، الهُدْب. وإن كان هذا العدد غير دقيق، حيث إن هناك الخيل الشُّوَيْمَات والقِدْرَانِيَّات، نسبة لابن قِدْرَان من الفَرِجَة من الرُّوَلَة، وهُنَّ من السلالات الأصيلة المعروفة. تمَّ نشر الكتاب في بولونيا بإيطاليا عام 1280هـ/1864م.
وأهدى جوارماني كتابه إلى ملك إيطاليا فيكتور عمانوئيل الثاني؛ لكن قبيل نشر الكتاب، استدعاه إلى فرنسا في سبتمبر من عام 1280هـ/1863م وزير الزراعة بغرض مهمة شراء خيول لإمبراطور فرنسا نابليون الثالث، ومن باريس استدعي إلى تورينو في مهمة مماثلة. ثم في ديسمبر عاد إلى فلسطين مُكلَّفاً بشراء جِيَاد فحول لصالح الحكومتين الفرنسية والإيطالية، فاستيقظ في ذهنه حلمه القديم بزيارة نَجْد، موئل عشائر العرب ومهد خيلها.
انطلق من القدس في 26 يناير من شتاء عام 1280هـ/1864م ومعه خادمه محمد الجزّيني، فحلَّ ضيفاً على بعض عشائر فلسطين: التَّعامرة والكعابنة وبني حَميدة، ثم عبر نهر الأردن إلى وادي زرقاء معين، وتابع إلى الحماد القبلي ديرة بني صَخْر، فزارهم بالقليطة وتزوَّد منهم برسائل توصية إلى شيوخ نَجْد، وأخذ منهم دليلاً، وهو الدَّرَيْبِي، كان له عوناً كبيراً وبطلاً ثانياً في رحلته هذه. كما التقى بالشيخ طلال بن فيصل الشِّعْلان الذي زوَّده برسائل أنقذت حياته.
تجوَّل جوارماني في شمال الجزيرة العربية وفي وادي السِّرْحَان والجوف وتَيْمَاء وحائل وخَيْبَر والعُلا وعُنَيْزَة. والذي لفت انتباه جوارماني جودة سوق عُنَيْزَة، التي تعد المركز الرئيس لتصدير خيل نَجْد إلى الكويت، ومنها إلى بومباي بالهند.
وفي أثناء ترحاله هذا قابل بعض الأمراء والمشايخ، ومنهم: الشيخ طلال بن فيصل الشِّعْلان الذي أعطاه رسالة توصية ، والشيخ فَنْدِي الفايز أحد مشايخ قبيلة بني صَخْر الكبار. وأعطاه رسالة توصية مماثلة لرسالة الشيخ طلال الشِّعْلان، والشيخ سليم اللحاوي أحد مشايخ الشَّرَارَات الكبار، والأمير عبد الكريم الرُّمَّان أمير تَيْمَاء. الذي استضافه ومنحه رسالة توصية موجهة لأمير حائل الأمير طلال الرشيد. اليِدْيَان مشايخ وُلْد علي من عنزة في الحجاز. الذين رحبوا به واستضافوه مع توجّسهم منه، الأمير عبدالله بن الإمام فيصل بن تركي آل سعود، الذي أتهمه بالتجسس لصالح تركيا، الأمير زامل السَّليم أمير مدينة عُنَيْزَة، والأمير بَنْدَر بن طلال الرشيد. الذي استقبله بترحاب ولطف. واصطحبه معه لمقابلة والده الأمير طلال بن رشيد وعمه الأمير عُبَيْد، والشيخ سلطان بن ربيعان أحد مشايخ عُتَيْبَة الكبار. الذي كان في حالة حرب مع الأمير عبدالله بن الإمام فيصل بن تركي آل سعود. فدخل جوارماني في معسكر عُتَيْبَة التي انتصرت في هذه الحرب، فباعوه أربعة جِيَاد أصيلة.
بعد مغامرة مثيرة – كادت أن تكون مميتة – بديار قبيلة الرُّوَلَة في وادي السِّرْحَان، عاد جوارماني أدراجه إلى حوران جنوبي الشام بغير الطريق الذي جاء منه، ومعه ثلاثة جِيَاد من أصل أربعة، حيث أصيب أحدها في المغامرة المذكورة. ومن حوران توجه إلى دمشق التي أرسل منها الجِيَاد المذكورة إلى أوروبا بحراً عبر بيروت، أما هو فقد رجع إلى القدس ليتابع حياته الاعتيادية فيها. وهكذا، لم تدم رحلته الشائقة في نَجْد الشمالي غير 4 أشهر: من 26 يناير إلى بُعيد 22 مايو 1864م.
أما أسلوبه الحيّ في وصفه لطبيعة البلاد والأحداث، ولقائه بالناس من شيوخ وأمراء وبسطاء، في تَيْمَاء والجوف وعُنَيْزَة وبُرَيْدَة وحائل وخَيْبَر، وتفاعله الإنساني معهم، وإغفاله لذاته ولعقدة التفوق الأوروبي، فأمرٌ وصل فيه صاحبنا الإيطالي إلى الذروة دون ريب.
أخيراً عاد كارلو جوارماني إلى إيطاليا، فأقام مع زوجته وابنتيه: سُليمى Zulima وإلفيرا Elvira في جنوة، حيث أضحى تاجراً معروفاً مُوسراً، وتوفي فيها عام 1302هـ/1884م وعمره 56 عاماً.
قبيلة عنزة في رحلة جوارماني
تحدث جوارماني في ص31 ممتدحاً القبائل العربية في أهم خصلة من خصال الخير ومكارم الأخلاق، وهي الكرم والجود والعطاء فقال: مهما بلغ فقر البدوي، عليك أن تبقى على كامل اليقين بأنك عندما تدخل بيته لا يمكن أبداً أن تمضي الليلة دون أن تتعشَّى. وفي العشائر الصغيرة والفقيرة يتم استقبال الضيوف على الدوام في بيت شَعْر مُضاف إلى البيوت، وتتناوب على الإنفاق عليه في كل يوم أسرة مختلفة. أما لدى العشائر الكبيرة، فرغم أن في كل منزل للمضارب بيت للضيوف، فإن كثيراً من العرب من أجل نشر صيت لهم بفضيلة الكرم لا يتركون لأي عابر سبيل فرصة الاقتراب من هذا البيت المخصص للضيافة؛ بل يأخذونه حتى بالقوة إلى بيوتهم. اهـ.
وفي أثناء وجود جوارماني عند الشيخ فَنْدِي الفايز أحد كبار مشايخ بني صَخْر، طلب منه ومن الشيخ طلال بن فيصل الشِّعْلان رسائل توصية كجواز عبور في المناطق التي عزم على الرحيل إليها. قال جوارماني حول هذا في ص37: ألجأني توخّي الحذر إلى أن أطلب من الشيخ فَنْدِي الفايز رسالة توصية موجهة إلى جميع شيوخ العشائر الصديقة والحليفة لبني صَخْر. كما أرسل لي الشيخ طلال بن فيصل الشِّعْلان رسالة أخرى بواسطة رجل من عشيرة عُتَيْبَة مُستجير (بالرُّوَلَة)، موجهة للشيخ سلطان بن رُبَيْعَان شيخ العُتَيْبَة الرُّوْقَة في أواسط جزيرة العرب، وهما شيخان مستقلاَّن ويشتهران بسطوة غزواتهما على أراضي أمراء نَجْد وعلى عشائر البدو التي تخضع لهم وتدفع الجِزْيَة. وفي رسالة الشيخ فَنْدِي الفايز جرت الإشارة إليَّ باسم: خليل آغا، على اعتباري موفداً من الحكومة العثمانية، مكلفاً بشراء الخيل في البادية. اهـ.
الجِزْيَة: الجِزْيَة: ضريبة مالية، يأخذها الحاكم المسلم، أو من ينوب عنه، في نهاية السنة، من الذكور البالغين، من رعايا الدولة الإسلامية، من غير المسلمين، ممن فتحت بلادهم عنوة، ومقدارها دينار ذهبًا، أو ما يعادل ذلك من الفضة، ويجوز أخذ الزيادة بحسب اجتهاد الحاكم، وتسقط عن غير القادرين؛ وذلك مقابل حمايتهم والذود عنهم، وتمتعهم بكامل حقوق المواطنة، والتي يضمنها الإسلام ويؤكدها. أما أهل الصلح فيؤخذ منهم ما صالحوا عليه، وبإسلامهم تسقط عنهم كافة. وحكم الجِزْيَة أنها تصرف في المصالح العامة.
أما التي يذكرها جوارماني فهي ضرائب عينية أو نقدية يأخذها الحُكَّام ومشايخ القبائل من رعاياهم أو من تصل أيديهم إليه تحت مسمى: الزكاة، الخُوَّة، الوَدِي. وكل نوع له سببه وطريقة تحصيله.
الزكاة: وهي الزكاة الشرعية وتفصيلاتها في الفقه الإسلامي معروفة.
الخُوَّة أو الخَاوَة: من الإخاء، وهي ضريبة نقدية أو عينية يأخذها القوي من بعض المدن والقرى، وبعض القبائل والعشائر، مقابل حمايتهم والذود عنهم.
الوَدِي: وهي ضريبة نقدية أو عينية يأخذها الأمير أو الشيخ من جميع رعاياه.
وفي ص38 تحدث جوارماني عن قصة مقتل الأمير فيصل بن نايف الشِّعْلان فقال: كان طلال بن فيصل الشِّعْلان منذ عدة أيام نازلاً ضيفاً على الشيوخ من آل الفايز. وكان أبوه فيصل الشِّعْلان قد قضى نحبه منذ بُرهة قليلة جرَّاء شُرعة الثأر، إذ كان قتل واحداً من رَبعِه من آل المشهور، وراحت أسرة القتيل بأسرها تتعقب خُطاه منذ وقت طويل، إلى أن فاجأته في بيت شَعْره الذي بناه بغير احتراس بعيداً عن مضارب عشيرته. ويحكى أن فيصلاً، الذي يشتهر صيته كواحد من أجسر المحاربين الذين يتناقل مآثرهم البدو، لما لاح له الخطر المحدق به لم تتغيَّر رباطة جأشه قيد شعرة، ورغم أنه لم يلحق أن يلبس درعه، فقد وثب إلى القتال وثباً، وبضربة واحدة من سيفه قَدَّ درع أول من صادفه وكتفه، وكان ذاك واحداً آخر من آله هو الشيخ عَتَّاب؛ ولكنه أصيب بطلقة من مسدس، ولما حاول القيام والدفاع عن نفسه، عاجله الشيخ نهار المشهور – أخو القتيل الأول – بضربة من سيفه على جبهته أطاحت بدماغه. ويُحكى أن نهاراً المشهور تلطَّخ وجهه بدم عدوه. اهـ.
قُتل الأمير فيصل بن نايف الشِّعْلان على يد أبناء عمه آل مَشْهُور من الشِّعْلان، قتله نهار المَشْهُور الشِّعْلان في 5/8/1280هـ الموافق 14/1/1864م. رحمه الله . وقتلوا مع الأمير فيصل ابن أخيه فَوَّاز بن حَمَد بن نايف الشِّعْلان، وكان يتواجد في هذا الوقت – للأسف – ابن جَنْدَل شيخ عشيرة السُّوَالِمَة، وشيخ رابع لا أعرف اسمه، فقتلوهما أيضاً، في موضع يقال له: عَظَمَان، بالقرب من مدينة طُرَيْف الآن، ودفنوا هناك رحمهم الله جميعاً. وذلك أَخْذًا بثأر بَرْجَس بن صَحَن بن الدَّرَيْعِي بن مَشْهُور الشِّعْلان، الذي قتله فَوَّاز بن حَمَد بن نايف الشِّعْلان غيلة وهو نائم، وطمعاً أيضاً في الإمارة، حيث قام المَشْهُور بأخذ المركب (العُطْفَة) وهو رمز الإمارة عند الشِّعْلان، وانتخبوا من بينهم حُمُود بن حسين المَشْهُور الشِّعْلان أميراً على قبيلة الرُّوَلَة. والرُّوَلَة عندما يكون الخلاف بين الشِّعْلان أنفسهم فإنهم يلتزمون الحياد، ومن يفرض نفسه من الشِّعْلان يتبعونه، فالولاء من الرُّوَلَة للأسرة الحاكمة الشِّعْلانية منقطع النظير ولا يزال.
وأعقب الأمير فيصل طلالاً، وذريته يعرفون بالطلال. وقد حاول الشيخ طلال بن فيصل أن يكون الحاكم بعد والده؛ لكن الذي يظهر من الأحداث أن النايف بعد أن استردوا المَرْكَب (العُطْفَة)، وهو رمز الإمارة، وذلك بمساعدة الشيخ الفارس سَاجِر الرَّفِدِي، قد اتفقوا على الأمير هَزَّاع بن نايف، وهو كبيرهم في ذلك الوقت. ويساعده في تسيير دفَّة الحكم ابن أخيه سَطَّام بن حَمَد الشِّعْلان، والذي تولى الإمارة بعد وفاة عمه الأمير هَزَّاع.
أما الشيخ طلال فقد رحل ومعه قرابة ثلاث مئة بيت ممن يؤيدونه من الرُّوَلَة، وكانت نهايته في معركة مع قبيلة وُلْد علي من عَنَزَة فيما بعد عام 1295هـ/1878م رحمه الله.
وفي ص50 قال جوارماني: في يوم 13 فبراير غادرت تَيْمَاء بصحبة بدوي من الأيدان (اليِدْيَان) وتركت هناك محمداً والدَّرَيْبِي مع المال، على اعتبار أنني لم أرغب بالتعرّض للخطر في بلاد ما تزال بالنسبة لي مجهولة تماماً. كنت أنوي التجوال في المراعي المعتادة قديماً لبني طيّ، ثم أجتاز بعد ذلك جبل الحَرَّة لأصل إلى قبيلة عُتَيْبَة Ehtebe، التي يسميها سكان الحجاز: Eteibe، وأخيراً أدخل نَجْدَاً عبر القَصِيْم.
وخلال ثلاثة أيام، قام دليلي بالتوجه صوب الجنوب الشرقي بجنوب، فأوصلني مباشرة إلى مضارب شيخه رِجَا الاَيْدَا Raja Aleida، على طريق خَيْبَر Keibar، في وسط الصخور الشمالية للحَرَّة، في موقع يبعد بضعة دقائق شرقاً عن خبرات الماء الطبيعية الهائلة.
وعلى بعد مسيرة يوم – حسب تعبير البدو – من مضارب رِجَا الاَيْدَا، تقع خَيْبَر بسبب وعورة الطريق. وهي تبعد كذلك عن تَيْمَاء بحوالي 10 – 12 ساعة أكثر مما تبعد تبوك عن تَيْمَاء، حيث يعتاد أهالي تَيْمَاء على الذهاب دوماً عبر ثلاثة أيام في موسم مرور قافلة الحج إلى مكَّة.
استقبلني الشيخ رِجَا، وهو ابن أخ واحد من أشدِّ خصوم الوهابيين شوكة وقوة، بشكل جعلني للمرة الأولى أشعر بأنني أُجَابَه بعدم التصديق لحقيقة مهمتي على أنها تتعلق بالخيل، وبأنني اعتُبرتُ جاسوساً لصالح الباب العالي. على ذلك، راح الشيخ يُجيب على جميع اسئلتي المتعلِّقة بالخيل وفق اعتبارات سياسية. وجعلني الإطناب اللامُتناهي من امتعاضه من سلوك أمراء نَجْد، وتفاصيله المتناهية في الإسهاب حول ابتزازهم وغِناهم، أتيقَّن كم كان يعاني من البقاء تحت نفوذهم، وبأن قبيلته كانت لتقاتلهم عن طيب خاطر، لولا أنها تخشى أن تُلفي نفسها وحيدة في هذا الصراع.
مكثت في خيمته ثلاثة أيام، إذ لزم بعض الوقت لإرسال خبر لإحضار الجِيَاد الفحول إليّ، والتي راح يقول بأنها الأكثر شهرة في قبيلته. وهو لم يكن ليتوانى عن عرض هذه الجِيَاد عليّ في أماكنها؛ ولكنها مشتتة في أماكن عدة من ديرته. لكنني لم أجد في أشكال هذه الجِياد ما كنت أتوقَّع العثور عليه في موطن زيد الخيل، عملاق بني Ghant من بني طَيّ، ولذا ففي يوم 19 رحلت إلى جوف وُلْد سليمان.
وبدلاً من المضيّ في خط مستقيم، رحتُ أتوجه تارة نحو اليمين وطوراً نحو اليسار، متجولاً بشكل مُتَعَرِّج ما بين مراعي الجبل أو مراعي الحَرَّة. فتوصّلتُ – عن طريق المصادفة – في المواضع التي كانت تمر بها أجمل رؤوس خيل اليِدْيَان والوُلْد سليمان، بأن خيل اليِدْيَان قد تمَّت مواراتها جيداً عن أنظاري، وكنت متأكداً تماماً بأن الوُلْد سليمان لم يكونوا على قدر وافٍ من التعاون. ولمَّا ظهر دليلي بمظهر كما لو أنني كنت خبيراً تماماً بمكر البدو، بما لا يمكن معه خداعي بسهولة، ولرغبته بالمكافأة التي وعدته بها، فقد قرر أن يكون معي صادقاً ومخلصاً.
لقد فضلنا النوم في الهواء الطلق في المراعي، على أن نأوي إلى المضارب الموصدة في السهول. فتحتْ الخيمة يكون بوسعنا توخّي الحذر، وتحت السماء المرصَّعة بالنجوم ينفتح القلب بسهولة ويُسر. ثم أن الرعاة إن كانوا عبيداً فليس لديهم موجب للأنانية، وإن كانوا أحراراً فهم لا ينتمون دوماً إلى القبيلة ولا يعدّون أنفسهم أمناء على أسرارها.
طوال مكوثنا مرتحلين في ديرة الأيدان Aleidan (اليِدْيَان)، لم تسفر أبحاثنا عن أيَّة نتائج مفيدة على الإطلاق. ولقد تمكنت من رؤية جِيَاد جميلة جداً – ولو بأعداد قليلة – لكنها ليست من الصنف الذي يلزمني، ولا هي من النوع الذي يحوز الإعجاب في أوروبا. فلقد كانت واطئة القامة إلى حد كبير. وبما أنه لم يكن هناك كبير ثقة بترجيح السّلالة الصافية على جميع الصفات الأخرى، ومن جهة أخرى لرغبتي بعدم الانحياز كُليَّاً إلى رأيي الشخصي، فلقد اضطررتُ بأن ألتزم حدود التعليمات المعطاة إليّ.
كُنَّا غالباً ما يُتعمَّد إيقاعنا بالمغالطات من قبل الوُلْد سليمان، حيث إن دليلي لم يكن يعرف جيداً سوى زملائه. ولكن الصبر والتعقل اللذين أبديناهما ونحن ننظر بإعجاب ظاهري إلى الأفراس في المضارب، مكنانا من العثور على طريقة لاكتشاف أفرَه الخيول في المراعي المنتقاه. اهـ.
وعندما وصل جوارماني إلى موضع يُسَمَّى جوف وُلْد سليمان من عنزة قال في ص52: كان (العُوَاجِي) شيخ عشيرة الوُلْد سليمان قد استدعي إلى حائل. ولمَّا لم أكن أودّ انتظار عودته، فلقد رجعتُ إلى الأيدان (اليِدْيَان)، فقطعتُ مباشرة في ثلاثة أيام الطريق الذي كنتُ فيه مُسبقاً خلال سبعة أيام. اهـ.
وفي أثناء وجود جوارماني مع قبيلة عُتَيْبَة باحثاً عن الخيل الأصيلة، حدثت معركة بينهم وبين الأمير عبدالله بن الإمام فيصل بن تركي آل سعود في شهر شوال 1280هـ/ مارس 1864م، فمنع شيوخ عُتَيْبَة جوارماني من الاشتراك معهم في هذه المعركة، وأوكلوا به من يحرسه حتى لا يلحقه الأذى، وهذا من شيم ونبل قبيلة عُتَيْبَة تجاه الضيوف والغرباء. شاهد جوارماني المعركة كاملة ووصفها لنا، والتي أسفرت عن انتصار قبيلة عُتَيْبَة.
في هذه المعركة كان جوارماني صادقاً في وصفه فلم يحاول أن يختلق بطولة لنفسه كما يفعل بعض الرحَّالة؛ بل عرض الصورة الحقيقية لحاله؛ لذلك سوف أنقل النص كاملاً؛ حتى يعرف القارئ الكريم أن بعض الرحَّالة صادق في وصفه ونقله، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها وهو أحق الناس بها. قال جوارماني في ص57: في يوم 13 مارس، ركب بنو قحطان خيولهم إلى مرمى بنادق رجالنا، ورفضوا التراجع والهزيمة إطلاقاً. وفي يوم 14 قام الأمير عبدالله بمهاجمتنا من جميع الجهات، فتمَّ صدّه بنجاح كبير. وفي يوم 15 عاود الهجوم تحت قيادته شخصياً، بقواته أجمع البالغة حوالي 10000 رجل، ولم ينسحب إلا بعد غروب الشمس بساعتين، دون أن يتمكن من زحزحتنا عن عشِّ النسور الذي نتمركز فيه، ولا من كسر خيَّالتنا الشجعان.
وحوالي منتصف الليل، ارتجّت الأرض بصيحة حرب عُتَيْبَة في مضاربهم. وامتطى الشيخ سلطان بن رُبَيْعَان، الشيخ العام للرُّوْقَة، مع 400 خيَّال و 5000 بواردي، متن هجنهم، فباغتوا النجديين وأوقعوا في صفوفهم مذبحة مروعة. ولم تتوان قواتنا عن الإسراع إلى ميدان المعركة وزادت في شدة القتال ضراماً.
استمرت المعركة حتى الصباح، وما كان من بني قحطان الذين أدّوا دورهم إلا أن بادروا أول الناس إلى الانسحاب وتخلّوا عن الأمير عبدالله، الذي قام بالانسحاب إلى القَصِيْم، دون أن يتبع فلوله أحد. أما الشيخان الظافران سلطان بن رُبَيْعَان ومِبْرِك، فقد تبادلا القُبل في ساحة الوغى.
في هذا الوصف الوارد أعلاه، كان بمقدوري أن اضع نفسي في حَومة الأحداث كأحد أبطال ثربانتِس ، وأدَّعي لنفسي المجد أو السفاهة حسب ما يستنتجه من يقرأ كتابي هذا، ولكنني آثرت على ذلك هوى عقيماً هو هوى العلم والحقيقة المُجرَّدة.
على ذلك، فإنني أقرُّ بأنه في خلال جميع المعارك التي خاضتها عشيرة الشيخ مِبْرِك الباسلة، كان موقعي ضمن الملجأ الأكثر عمقاً واحتجاباً ضمن الوهدة، حيث ألفيت نفسي بين الجرحى والنساء والمتاع، وهذا ما مكنني بين الفينة والأخرى من التجوّل ما بين جِياد الرجال الذين لم يكونوا مشاركين في القتال. كانت هذه الجِياد مشكولة في الأجَمات بقيود، وكانت أمامي الفرصة سانحة لدراستها. ولم تُقلقني الرصاصات التي كانت تُصَفِّر فوق رأسي، وترتدُّ على الصخور المحيطة بنا وتعود لتسقط خامدة عند قدمي.
كانت هذه الدراسة في الواقع ذات أهمية قصوى؛ لأن خيول قبيلة عُتَيْبَة هي أقوى الخيول التي تجول بأكناف البوادي. وكانت في بعض الأحيان تصرف تركيزي أنَّات الجرحى الذين يأتون لتلقّي بعض العون، وبصيحات النساء اللواتي يستقبلنهم بفورة الفرح. وكُنَّ ينخينهم للعودة إلى القتال إن أمكنهم ذلك، عندما كان الذّرور والرَّماد بفيان بإيقاف الدم النَّازف من جراحهم، وبعدما كُنَّ يُضمِّدنَّ الجراح بالعصائب.
لقد بدت نساء قبيلة عُتَيْبَة جديرات حقاً بمنافسة بطلات حِمْيَر في الماضي الغابر. اهـ.
كما ترى أخي القارئ الكريم، فقد فضَّلتُ نقل المقطع كاملاً؛ حتى تعرف أن الكثير من الرحَّالة صادق في وصفه ورواياته، ولهم الفضل بعد الله في حفظ الكثير من تاريخنا، خاصة الثلاثة قرون الأخيرة، التي تعتبر الفترة التاريخية الغامضة من تاريخ الجزيرة العربية والقبائل بشكل عام. لذلك كتابات هؤلاء الرحَّالة تعتبر مادة علمية تاريخية لا يستغني عنها الباحث في أحوال ذلك الزمان وذلك المكان. طبعاً، هذا لا يمنع من التمحيص والتدقيق.
وفي اليوم التالي لانتصار قبيلة عُتَيْبَة اشترى منهم ثلاثة جِيَاد بمئة بعير كانت تمثل ثلث قيمتها إلا أن الشيخ سلطان بن رُبَيْعَان لم يفاوضه في السعر بسبب التوصيات التي كان يحملها معه من شيوخ قبيلة بني صَخْر ومن ذلك العُتَيْبِي المستجير بقبيلة الرُّوَلَة. قال جوارماني في ص59: وكان حصولي عليها بهذا الثمن الزهيد بفضل التوصية التي أحملها من شيوخ الصّخور وشيوخ عشيرة عُتَيْبَة المستجيرين الذين تعرفت عليهم عن طريق الشيخ طلال بن فيصل الشِّعْلان، وبشكل ما بفضل مكانة الشيخ مِبْرِك الذي كان يرغب بترحيلي بأسرع ما يمكن، مخافة أن يقع لي مكروه. اهـ.
وعند اقتسام الغنائم، حصل خلاف بين شيوخ قبيلة عُتَيْبَة على جواد كُميت مشقرّ له نجمة على جبهته ومُحجَّل القائمتين الخلفيتين، فقام الشيخ مِبْرِك بتهدأتهم، وأقنعهم بأن يعطوه جوارماني؛ لأنه شارك في العناية بالجرحى، وهذا نصيبه من غنائم هذه المعركة، فاقتنعوا وأعطوه الجواد.
وفي ص60 تحدث جوارماني عن الخلافات بين القبائل في نَجْد والحجاز وعن الرايات التي تجتمع عليها الناس. فقال: وهنا أقول راية واحدة ولا أقول: عُطْفَة ootfe ، إذ أنني حتى الآن لم أجد هذه العبارة مستخدمة في نَجْد. وفي بر الشام لا تستخدم إلا لدى ضَنَا بِشْر التابعين للأمير ابن هَذَّال، والرُّوَلَة التابعين للشِّعْلان. اهـ.
العُطْفَة: هو مركب تركبه إحدى بنات شيوخ القبيلة؛ لتشجيع قومها على القتال والاستماتة في الدفاع عنها، ولا يستخدم إلا في المعارك الكبيرة. وكما هو معروف عند البادية فإن من يفقد عُطفته عليه أن يحصل على مثلها من الخصوم لا أن يصنعها، والجدير بالذكر أن قبيلة الرُّوَلَة هي القبيلة الوحيدة التي لم تفقد عُطْفَتَهَا على مدى تاريخها، وهي موجودة عند أمراء الرُّوَلَة آل شعلان لمن أراد أن يُنظر إليها.
وفي نهاية هذه الرحلة الماتعة 14/12/1280هـ الموافق 20/5/1864م، وفي وادي السِّرْحَان، تعرضت القافلة التي كان فيها جوارماني لغارة من قبل بعض الرُّوَلَة وبعض الشَّرَارَات بقيادة حَمَد بن بْنَيَّة الشِّعْلان، وبعد معركة سريعة بين الطرفين أخذهم حَمَد بن بْنَيَّة، إلا أن جوارماني وبعض من معه استطاعوا الهرب، بعد أن فقد حصاناً من الأربعة التي اشتراها من قبيلة عُتَيْبَة، إلى أن وصلوا قُرَيَّات الملح، ومن قرية كَاف ذهب إلى حوران، مُنهياً بذلك رحلته التي استمرت حوالي أربعة أشهر.
انتهت الرحلة، إلا أن جوارماني ألحق بها ملحوظات ومعلومات جغرافية للمسافرين إلى نَجْد الشمالي، ومنها قال في ص126: أما خَيْبَر فهي قرية يقطنها 2500 نسمة، وتتوارى دُورها تحت مزارع النخيل. وهي تنقسم إلى سبعة أحياء يحتل كلٌّ منها واحداً من الوديان السَّبْعَة لجبل الحَرَّة، الذي يضم في هذا الموضع كثيراً من ينابيع الماء البالغ الصفاء. وعلى هذه الوديان تُشرف الصخرة السَّامقة التي تلوح عليها أطلال قصر قديم جداً، يُدعى قصر اليهودي أو قصر اليهود. وسُكَّان خَيْبَر يتألفون من المَغَارِبَة ومن الأحباش الذين هم عقب عبيد وُلْد سليمان واليِدْيَان. وهؤلاء العبيد ظلّوا يقيمون بِخَيْبَر بعدما أباد مرض الجُدري أسيادهم قبل عدة قرون، فعزوا هذا المرض إلى الماء وتركوا القرية لهم؛ لكن دون أن يتنازلوا كلياً عن ملكيتها، فلقد عيّنوا عليهم حق ملكية عذقين من التمر على كل نخلة عند جني الطَّلْع، وتركوا لهم فيما عدا ذلك حرية زراعة المحاصيل الأخرى على حسابهم.
وفي كل عام، يقترب وُلْد سليمان واليِدْيَان من خَيْبَر دون أن يدخلوها، إذ يعتقدون أنَّ ماءها يبقى قتَّالاً لا محالة، فيجلب لهم السكان المَغَارِبَة التمور التي تعود عليهم وعلى الجِزْيَة بمبلغ 2000 ريال مجيدي (9320 فرنك فرنسي)، التي يتعيَّن عليهم أن يدفعوها لطلال بن رشيد، وهذه الجِزْيَة الوحيدة التي يترتب عليهم دفعها.
وجميع سُكَّان خَيْبَر مسلمون وذوو نفوس طيبة. ومن الخطأ حقاً الظن بأن اليهود كانوا في القرن الثامن عشر يقطنون خَيْبَر. اهـ.
ليست خيبر فقط لوُلْد سليمان واليِدْيَان شيوخ وُلْد علي، إنما تشترك معهم قبيلة الفْقَرَا (الافْقَرَا) والشِّمْلان والبَجَايْدَة والكل من عنزة. وهذه القبائل الخمسة هي الأكثر تملكاً في خَيْبَر بعد رحيل قبائل عنزة وانتشارهم في أرض الله الواسعة.
والجِزْيَة المذكورة المقصود بها الزكاة الشرعية، وتؤديها بعض قبائل عنزة في ذلك الوقت إلى حاكم الجبل طلال بن رشيد، وهو وبدوره يرسلها إلى الحاكم العام الإمام فيصل بن تركي آل سعود.
وفي ص140 ذكر جوارماني آبار الشَّقِيْق، وأن الذي حفرها هم الرُّوَلَة من عنزة، وأن الأمير طلال بن رشيد قام بردم هذه الآبار حتى يوقف هجمات الرُّوَلَة على حدوده الشمالية.
وفي ص143 قال جوارماني: في مطلع القرن التاسع عشر، كان يحكم الجوف أمراء ينحدرون من أسرة (بني سَـرَّاح) من قرى وادي السِّرْحَان المستقلة التي تدفع الخُوَّة للرُّوَلَة. وفي عام 1269هـ/1853م حاصـر طلال بن رشيد الجوف واستولى عليه برغم المقاومة الباسلة التي دامت عشرين عاماً. وتَمَّ أسر أميره حَطَّاب بن سَرَّاح وإيداعه السجن، وما زال إلى الآن يعيش في سجون قصر حائل، أما أبناؤه فقد عادوا إلى وادي السِّرْحَان وعمَّروا فيه قرية الوَشْوَاش Uschevasc، بالقرب من إثْرَة Etere والأخضر Ekder، إلى الشمال الغربي من الأولى، وإلى الشرق من الثانية. اهـ.
آل سَرَّاح: حُكَّام دُوْمَة الجَنْدَل في منتصف القرن 13 الهجري، غدر بهم الأمير عبيد بن علي بن رشيد عندما غزا الجوف باسم الدولة السعودية الثانية، فلم يقدر على اقتحام دُوْمَة الجَنْدَل؛ وذلك لشجاعة أهلها وجودة تحصينها، فتصالح مع حَطَّاب وابنه غالب السَّرَّاح؛ لكنه غدر بهم، وأخذهم معه إلى حائل، ووضعهم في السجن، وكان غالب بن حَطَّاب السَّرَّاح قد حذر والده من ذلك، وصدق ظنه. تمكن غالب من الهرب والعودة إلى الجوف لكنه لم يستقر فيه، لوقوعه في نفوذ الدولة السعودية الثانية ونائبها ابن رشيد، فذهب إلى الأمير فيصل بن نايف الشِّعْلان في قُرَيَّات الملح يطلب النصرة، فنصره. وعَمَّر غالب قرية الوَشْوَاش في أعالي وادي السِّرْحَان؛ لكنه لم يسلم من المؤامرات حيث أرسل له ابن رشيد من قتله غيلة رحمه الله، وبهذا انطوت صفحة حكام الجوف آل سَرَّاح عام 1275هـ/1859م تقريبًا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر / قبيلة عنزة الوائلية في كتابات الرحالة والمستشرقين ، للمؤلف – فائز الرويلي