الرحالة والمستشرقين

عنزة الوائلية في رحلات بوركهارت

‏جوهان لودفيج بوركهارت من أبرز الرحَّالة الأوربيين إلى البلاد ‏العربية وأكثرهم دقة وإنصافاً. وقد ولد في بلدة لوزان السويسرية عام ‏‏1198هـ/1784م. وكان أبوه عقيداً في الجيش، فاضطر إلى مغادرة بلاده ‏حينما احتلتها القوات الفرنسية، واستقر في ألمانيا. وقد درس جوهان في ‏لايبزك ثم في جامعة جوتنجن. وتكونت لديه رغبة عظيمة في أن يصبح رائداً ‏من الرواد المشهورين. فانتقل إلى بريطانيا، واتصل بالسير جوزيف بانكز، ‏عضو الجمعية الأفريقية التي كانت قد أرسلت عدة بعثات إلى منطقة النيجر ‏انتهت كلها بهلاك أفرادها. وعرض بوركهارت على الجمعية المذكورة خدماته ‏للقيام برحلة إلى تمبكتو مع قافلة الحج العائدة إلى هذه البلدة من مكة، ‏فرحبت الجمعية بطلبه. وكان مما قام به في بريطانيا أن عكف على دراسة ‏اللغة العربية والدين الإسلامي والطب والكيمياء، كما دَرَّبَ نفسه على ‏الحياة الشاقة التي يمكن أن يتعرض لها كل رائد.‏

وفي شهر محرم 1224هـ الموافق لشهر مارس 1809م غادر بوركهارت ‏بريطانيا متوجهاً إلى جزيرة مالطا حيث ادَّعى أنه طبيب هندي وتسمى ‏بإبراهيم. ومن هناك اتجه إلى سوريا، واستقر في حلب عامين واصل خلالهما ‏دراسته للغة العربية حتى أتقنها، كما واصل دراسته للدين الإسلامي حتى ‏أصبح ذا معرفة جيدة به. على أنه لم يقتصر خلال هذين العامين على ‏دراسة اللغة والدين، بل تجوّل بين قبائل المنطقة الرُّحَّل؛ خاصة قبيلة عنزة ‏المشهورة. وكتب عن تلك القبائل، فيما بعد، كل ما لحظه في تجواله. وكان ‏مما حققه من نجاح في بلاد الشام أن وصل إلى البتراء التي كان الأوربيون ‏توّاقين إلى معرفتها والوصول إليها.‏

وفي شهر محرم 1227هـ الموافق لشهر فبراير 1812م شعر بوركهارت ‏أنه أصبح مهيأ ليقوم برحلته إلى جهات النيجر. فسافر من سوريا على مهل ‏حتى وصل القاهرة في شهر سبتمبر من ذلك العام. لكنه وجد أنه من غير ‏المتوقع أن تنطلق قافلة من هناك إلى غرب أفريقيا إلا في شهر يونيو من العام ‏الذي يليه. فقرر أن يسافر بمحاذاة نهر النيل لعله يجد طريقاً من بلاد النوبة ‏إلى هدفه، فإن لم يجد عاد إلى القاهرة في الوقت المناسب لمرافقة القافلة.‏

وتوغل بوركهارت في جنوبي مصر حتى وجد تمثال أبي سنبل. وحين ‏أدرك في أَسْيُوْط أنه غير قادر على الذهاب من هناك إلى غربي أفريقيا رأى ‏أن مما قد يُسهِّل مهمته في تحقيق هدفه الحصول على لقب (الحاج). ولذلك ‏رافق قافلة الحجاج النوبيين والسودانيين إلى مكَّة, واحتياطاً لأية طوارئ أو ‏مفاجآت حمل معه رسائل من محمد علي، حاكم مصر، تظهره على أنه ‏الشيخ إبراهيم بن عبدالله الشامي.‏

وفي شهر رجب 1229هـ الموافق لشهر يوليو 1814م أبحر بوركهارت ‏مع مملوكه من ميناء سواكن في السودان، فوصل إلى جُدَّة بعد أسبوعين. وما ‏أن وصل إلى هذه البلدة حتى حَلَّ به المرض، ثم اضطر إلى بيع مملوكه لنفاد ‏ما كان معه من مال. على أنه اتصل بمحمد علي الذي كان حينذاك قد ‏وصل إلى الحجاز لمواصلة الحرب ضد الدولة السعودية الأولى، فأمده ببعض ‏المال، وطلب منه أن يأتي لمقابلته في الطائف. ويبدو أن ذلك الحاكم كان ‏يخامره بعض الشك في أن بوركهارت كان جاسوساً لبريطانيا مما جعله يراقبه ‏بحذر، لكن وساطة طبيبه الأرمني بوساري أدت إلى سماحه له بمغادرة جُدَّة.‏

وفي يوم الخميس 23/9/1229هـ الموافق 8/9/1814م دخل ‏بوركهارت مكَّة، ثم غادرها أياماً قليلة إلى جُدَّة حيث اشترى مملوكاً وأدوات ‏كان في حاجة إليها، وعاد إلى مكَّة، فأدّى مناسك الحج واستقر فيها قرابة ‏أربعة أشهر. وسافر من مكَّة إلى المدينة النبويَّة حيث بقي فيها ثلاثة شهور ‏عانى في كثير من أيامها مرضاً شديداً. ثم سافر منها إلى يَنْبُع التي كان قد ‏حلَّ بها وباء مات بسببه كثير من سكانها. وبعد ثلاثة أسابيع من وصوله ‏إليها استقل سفينة متجهة إلى مصر. فوصل القاهرة في يوم السبت ‏‏17/7/1230هـ الموافق 24/6/1815م.‏

ومع أن الأمراض التي تعرَّض لها بوركهارت خلال رحلته إلى الحجاز قد ‏أضرَّت بصحته كثيراً إلا أنه كان توّاقاً إلى الحصول على قافلة يسافر معها إلى ‏تمبكتو؛ لكنه لم يُدرك ما كان توّاقاً إليه؛ ولأن وباء الطاعون قد انتشر في ‏القاهرة فقد غادرها إلى صحراء سيناء حيث بقي شهرين بين قبائلها الرُّحَّل، ‏ثم عاد إلى العاصمة المصرية ليكمل تدوين ملوحظاته في رحلاته. ‏

وفي يوم الأربعاء 5/12/1232هـ الموافق 15/10/1817م وافاه ‏الأجل في القاهرة، ودفن في مقابر المسلمين بناء على وصيته، وكُتب على ‏قبره: هذا قبر المرحوم إلى رحمة الله تعالى الشيخ الحاج إبراهيم المهدي بن ‏عبدالله بوركهارت اللوزاني. وهذا ما يؤكد لنا بقاءه على الإسلام رحمه الله.‏

رحلات بوركهارت كثيرة؛ لكن الذي يُهمنا هو ما يقع تحت هذا ‏العنوان: «رحلات في سوريا والبلاد المقدسة». وسوف أستعرضها على ‏سبيل الإجمال؛ حتى يعرف القارئ الكريم مقدار الوقت والجهد الذي بذله ‏بوركهارت حتى خرجت لنا هذه الكتب، وصارت مصادر لا يستغني عنها ‏الباحث في أحوال ذلك الزمان وذلك المكان .‏

في عام 1225هـ/1810م قام بوركهارت برحلات طويلة في بلاد ‏الشام، زار فيها حوران وتَدْمُر وبَعْلَبَك ودمشق وجبال لبنان الغربية والشرقية، ‏ومر على منطقة بَانِيَاس والحُوْلَة في شمال الجولان ولم يكمل طريقه إلى طبريَّة ‏وساحلها الشرقي بسبب ورم أصاب رجله، فقفل عائداً إلى دمشق ومنها إلى ‏حَلَب.‏

وفي شهر صفر 1227هـ الموافق لشهر فبراير 1812م غادر حلب ‏متوجهاً إلى دمشق، وفي طريقه زار مدينة إدْلِب والجبال الشرقية ونهر ‏العاصي وحماة وطرابلس. وكعادته سجّل كل صغيرة وكبيرة.‏

وفي شهر ربيع الثاني 1227هـ الموافق لشهر أبريل 1812م تجوّل مرة ‏أخرى في حوران وما حوله، فزار بُصْرَى والمُزَيْرِيْب والرَّمْثَا وعَجْلُوْن وجَرَش وأم ‏قيس وعَمَّان.‏

وفي شهر جمادى الثانية 1227هـ الموافق لشهر يونيو 1812م غادر ‏دمشق متوجهاً إلى مصر، وفي طريقه مَرَّ بالقُنَيْطِرَة وبحيرة طبريَّة، وتجوّل في ‏شمال فلسطين، واكتشف مدينة البَتْرَاء، ومنها إلى سيناء فالقاهرة، التي ‏وصلها صباح الجمعة 28/8/1227هـ الموافق 4/9/1812م.‏

وفي شهر جمادى الأولى 1231هـ  مطلع أبريل 1816م تقريباً أصيبت ‏مدينة القاهرة بالطاعون للمرة الثانية، وكان بوركهارت خارجها، ففضل عدم ‏دخولها، وعزم على الرحيل إلى سيناء، فرافق قافلة متجهة إلى هناك، ومكث ‏هناك قرابة الشهرين يتجوَّل ويُسجِّل وقائع الرحلة. وعاد إلى القاهرة التي ‏وصلها صباح الأربعاء 17/7/1231هـ الموافق 12/6/1816م. ‏

قبيلة عنزة في رحلات بوركهارت

يقول بوركهارت في أثناء تجواله في حوران ص64: كان في نيتي السير ‏إلى ملح، لكن مرافقيّ الدُّرُوْز أبدوا خوفاً من عرب الشرقية، من قبيلة ‏الجِلاس الذين كانوا ينتشرون في المنطقة. اهـ.‏

قبيلة الجِلاس هم الرُّوَلَة الآن. وهذا الخبر يخالف من قال بأن قبيلة ‏الرُّوَلَة من أواخر قبائل عنزة هجرة إلى بلاد الشام. والذي تختلف فيه الرُّوَلَة ‏عن غيرها من قبائل عنزة أنها تذهب وتجيء، بخلاف بعض قبائل عنزة ‏الأخرى التي استقرت في بلاد الشام، مثل الفِدْعَان والسَّبَعَة. وقد ذكر ذلك ‏بعض المؤرخين بأن الرُّوَلَة هي الوحيدة التي لا زالت ترتبط بموطنها الأول ‏خاصة الجوف. لذلك يقال عن الرُّوَلَة بأنهم: (بعيدين الظَّعْنَة وَسِيْعِيْن ‏الطَّعْنَة). كناية عن الشجاعة وعن بعد المسير.‏

والشيخ عبدالله بن مُنِيْف الشِّعْلان المتوفي عام 1199هـ/1785م رحمه ‏الله هو أول شيخ قاد الرُّوَلَة من نجد والجوف إلى بلاد الشام كما مر معنا، ‏حصل ذلك في الربع الأخير من القرن (12) الهجري(‏ ‏).‏

وفي ص74 قال: اتجهنا من المسمية شمالاً وإلى الشرق في المنطقة ‏الصحراوية باتجاه جبل الكسوة. وبدا لنا أن الطريق في الصيف سالك ‏جيداً إذ هو طريق بدو عنزة الذين يرتحلون إلى حوران ويعودون منها. اهـ.‏

هذا موسم حصاد الحبوب وقطف الثمار، والناس تستعد للشتاء.‏

وفي ص121 قال: يقترب وادي اللوا أحياناً من اللجاة، يبتعد ميلاً ‏في بعض الأماكن داخل السهول الخصبة. وضفافه مغطاة بأروع أنواع ‏الأعشاب دون أن يستفيد منها أحد. فالعرب هناك يخشون من قبيلة ‏عنزة ومن حكومة دمشق، بينما تخشى عنزة من اللصوص عند مشارف ‏اللجاة. اهـ .‏

لا تخشى قبيلة عنزة العدو الظاهر، لكنها تخشى هؤلاء اللصوص، ‏والذين يُسمّون في اللهجة الدارجة (حَنْشَل). والحَنْشَل لا يتجاوز عددهم في ‏الغالب الخمسة، ويعتمدون على الخِفَّة والتخفي في الوصول إلى أهدافهم، ‏وعادة هذه الأهداف بعير شارد لم يدخل في القطيع، لذلك هذا المُتَطَرِّف ‏يعتبر صيداً سهلاً بالنسبة لهؤلاء (الحَنْشَل).‏

وفي ص123 حضر حفلة لبعض البدو فقال: وكان ذلك بمناسبة ‏عودة شاب من أبناء القبيلة كان عرب عنزة قد أخذوه أسيراً في غارة ‏ليلية عليهم. وأرانا الأسير مكان وثاقه باعتباره (ربيطاً) أسيراً لدى عرب ‏عنزة الذين أطلقوه مقابل فدية قدرها ثلاثون ناقة دفعها أحد أفراد ‏قبيلته. اهـ.‏

قد كذب هذا الأسير!!، فهو حتى يبرر وجوده في الأسر نسج هذه ‏القصة لبوركهارت، وأنه قد أخذ على حين غِرَّة؛ بينما قبيلة عنزة لا تحارب ‏أو تغير على العدو إلا بعد أن تنذره، ووقت الهجوم يكون في الصباح، أو ‏بعد العصر، ويعتبرون الهجوم ليلاً معيبة عليهم، ويسمونه: بَيَات. وهو: ‏الإغارة على الناس ليلاً. وتعتبر خيانة عند قبيلة عنزة لا تفعلها أبداً(‏ ‏). وقد ‏مرَّت معنا رحلة فتح الله الصايغ والتي ذكر فيها بعض الصور من ذلك. ‏

وفي نفس الصفحة 129 قال: استأذنت من صديقي العزيز شبلي ‏الذي لم يتركني أسافر وحدي بل استأجر رجلاً لمرافقتي غرباً عبر حوران. ‏وذلك الرجل كان من عرب الصعيد بمصر من آل خليفة، وكان يسكن ‏هناك، وبعد أن خدم مع المماليك ورافق أحدهم إلى مكة عاد إلى دمشق ‏وأصبح من خَيَّالة جيش الباشا. وحدث أن قتل أحد رفاقه فاضطر ‏للهرب واللجوء إلى عرب عنزة طلباً للحماية. اهـ.‏

يُسمى هذا المصري دخيل. والدخيل: هو من يلجأ إلى إحدى القبائل ‏أو الأمراء هارباً من الثأر أو غيره. وهنا يلزم من دخل عليه الدخيل حمايته ‏وعدم تسليمه، ويُسمى هذا الدخيل: (جُلُوِي). مأخوذ من الجلاء؛ وهو: ‏ترك المكان – غصباً لأي سبب كان – والذهاب إلى مكان آخر(‏ ‏). ولعل ‏شهرة قبيلة عنزة هي التي جعلته يختارها لحمايته، وقد أصاب في اختياره . ‏

وفي ص132 قال: مياه البحيرة – أي بحيرة المُزَيْرِيْب – صافية ‏كالزلال وتخلو من أيّة أعشاب نامية فيها، ويبلغ عمق مياهها طول قامة ‏إنسان وأكثر، أراضيها رملية مغطاة بحصى أسود كأرض حوران. يعيش ‏فيها أسماك كثيرة خاصة الكارب البني والمشط. وفي فصل الصيف حين ‏يتم جمع الغلال، يأتي عرب عنزة بكل إبلهم فيعج شاطئها مليئاً بآلاف ‏الجِمال، ويملأ العرب قِرَبَهم من ماء البحيرة لأنهم يفضلونه على أية مياه ‏من مصادر أخرى. اهـ .‏

وتُسمّى هذه البحيرة: البَجَّة، وهي من موارد قبيلة عنزة المائية، وقد مر ‏الحديث عنها في رحلة السُّوَيْدِي البغدادي. ‏

وفي ص134 قال: غادرنا المُزَيْرِيْب مساء مضطرين إلى السير على ‏طريق الحج خوفاً من عرب عنزة. إلى أن قال: ثم تابعنا السير فوصلنا خلال أقل من ثلاث ساعات ‏إلى الرَّمْثَا، حيث يستريح الحجيج حول بركتي ماء بين جنبات الوادي ‏مسوّرتين بحيطان ثلاثة عالية. ووجدنا هناك قبيلة من عرب عنزة يسقون ‏مواشيهم.

لم يحدد بوركهارت سبب الخوف من قبيلة عنزة؛ بينما يذكر في المقطع ‏الثاني أنه قابل من يخاف منهم ومع ذلك لم يذكر أنهم تعرضوا له بشيء!! ‏والظاهر أن الذين معه كانوا خائفين فانتقلت له العدوى!!‏

وفي ص162 قال: أما الضَّرَائِب التي يدفعها جميع الفلاحين في ‏حوران فيمكن حصرها في الأنواع الأربعة التالية: ضريبة الميري ‏‏[الحكومة]، ونفقة العسكر خلال زحفهم، وضريبة تدفع للبدو، ‏وضرائب استثنائية. أما بالنسبة لضريبة الميري(‏ ‏)، فهي تفرض على ‏الفَدَّان.

إلى أن قال في ص164: أما الضريبة الثالثة المفروضة فهي الأكبر ‏على الفلاحين، وهي الضريبة المدفوعة للبدو من قبائل الفُحَيْلي ‏والسَّرْدِيَّة وبني صَخْر والسِّرْحَان؛ الذين يؤمون حوران، ناهيك عن قبائل ‏أخرى مثل عنزة الذين يأتون في الصيف، ويفرضون ضريبة تسمى (الخُوَّة) ‏من كل قرية بحوران. ومقابل هذه الخُوَّة يمتنع البدو عن التعدي على ‏المزروعات في القرى. وتدفع كل قرية خُوَّة لشيخ القبيلة، وعندئذ تسمى ‏القرية (أخت) من قبل رجال القبائل.

الخُوَّة: وهي ضريبة نقدية أو عينية يأخذها القوي من بعض المدن ‏والقرى، وبعض القبائل والعشائر، مقابل حمايتهم والذود عنهم.‏ وتحدّث بوركهارت في نفس السياق أن القبائل التي تأخذ ضريبة (الخُوَّة) ‏تدفع جزءاً منها لباشا الشام ما عدا قبيلة عنزة، حيث قال: أما الضريبة ‏المفروضة لعرب عنزة فلا تخضع لقانون.

لأن عنزة، وخاصة قبيلة الرُّوَلَة في ذلك الزمان لا تخضع لباشا الشام، ‏فهم غير ملزمين بدفع أية مبالغ مفروضة أو قد تفرض عليهم. أما في نهاية ‏القرن (13) وبدايات القرن (14) الهجري وقبل سقوط الخلافة الإسلامية ‏العثمانية فقد التزمت بعض قبائل عنزة بتأدية الزكاة وما يطلب منها من ‏ضرائب؛ لأن بعض قبائل عنزة شبه استقرت في المدن والقرى، وأصبحوا ‏يملكون البيوت والمزارع والبساتين، الذي جعل القوانين تسري عليهم قطعاً.‏

وفي ص167 قال: في شهر أيار – مايو تعج مناطق حوران بالعرب ‏المتجولين القادمين من البادية، ويبقون هنا حتى أيلول – تموز. وهؤلاء ‏تحديداً من قبيلة عنزة. كان عرب الشَّرَارَات وفي الماضي يأتون إلى حوران ‏من مكَّة، وقبائل شَمَّر من جبل شَمَّر، وقبائل الظِّفِير من مناطق العراق. ‏وعندما يصل عرب عنزة يرحل العرب المقيمون الذين يكونون على عداء ‏معهم إلى تخوم الجبل الغربي في الصفا على الأرجح أو باتجاه المُزَيْرِيْب ‏والصَّنَمَيْن. ويأتي عرب عنزة لسببين: المراعي والماء صيفاً ومن أجل ‏التموين من الحبوب شتاء. فإذا كانوا على علاقة طيبة مع الباشا فإنهم ‏ينزلون بين القُرى مطمئنين، وقرب مصادر المياه، وإذا كانوا في حالة ‏حرب معه يبقون في منطقة بُصْرَى وأم الجِمال حتى الزَّرْقَا. وعموماً يسمح ‏لهم الباشا بالقدوم لشراء المؤن من حوران إلا في سنوات القحط. اهـ.‏

قبيلة عنزة المذكورة هي قبيلة الرُّوَلَة، فهي التي لها مرباع ومصيف. رحلة ‏في الشتاء إلى نَجْد والجوف ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام. والذي يؤيد ‏هذا الرأي هو قول بوركهارت: وعندما يصل عرب عنزة يرحل العرب ‏المقيمون الذين يكونون على عداء معهم إلى تخوم الجبل الغربي في الصفا ‏على الأرجح أو باتجاه المُزَيْرِيْب والصَّنَمَيْن.

نعم، فقد حدثني كبار السن من قبيلة الرُّوَلَة أنهم عندما يذهبون إلى ‏بلاد الشام فإنَّ قبائل منطقة حوران وبحكم الخصومة التي بينهم تتحصن منهم ‏وخاصة قبائل الجبل، فجبل العرب وحَرَّة اللجاة يوفران لهم الحماية الطبيعية.‏

وفي ص168 قال: وحتى سنوات قليلة مضت كان عرب عَنَزَة ‏يتولون تزويد الحجيج بالإبل، حيث يتفقون مع الباشا على تأجير آلاف ‏الجِمال فيكسبون مالاً كثيراً، ناهيك عما يفرضونه على الحجاج، وما ‏ينهبونه. وهذه المكاسب التي يحصلون عليها أجبرت عنزة على إقامة ‏علاقات طيِّبة مع الباشا في دمشق، على حساب علاقاتهم مع الوهابيين؛ ‏لكنهم بعد انتهاء موسم الحج يعودون إلى حمل السلاح مع أصدقائهم ‏القدامى، وهذا يحدث بلبلة بين أهالي حوران. اهـ.‏

الذين ينقلون الحجاج هم وُلْد علي من عنزة، وقد تشارك معهم بعض ‏قبائل عنزة الأخرى؛ لكن هم الأكثرية. ‏

أما قول بوركهارت: وما ينهبونه. فهو كلام غير دقيق؛ لأن قبيلة عنزة ‏ضمن قافلة الحج الشامي والتي يصاحبها عدد من العسكر لحمايتها. ومهمة ‏قبيلة عنزة واضحة، وهي نقل الحجاج إلى مكة والمدينة والعودة بهم مرة ‏أخرى إلى الشام ضمن نفس القافلة المحروسة بهؤلاء العسكر. والتصرفات ‏غير المقبولة ليست واردة هنا، لذلك كلام بوركهارت غير صحيح بتاتاً.‏

وقوله: أصدقائهم القدامى. هي إشارة إلى أن عنزة من المؤيدين للدعوة ‏الإصلاحية السلفية، دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله؛ لكن تقاطع ‏المصالح مع الباشا يجعلهم يُقدِّمون ويُؤخِّرون، ويَقطعون ويَصِلُون، ولعل هذه ‏هي السياسة المقبولة في ذلك الوقت!! وقد تكون في كل وقت!! ‏

يقول بوركهارت في أثناء رحلته إلى مصر ص192: وجدت نفسي في ‏السَّلْط بلا رفيق يصحبني إلى عَمَّان لخطورة الطريق. فعرب بني صَخْر ‏أعداء عرب العَدْوَان وأعداء الحكومة في دمشق وكذلك مع عرب الرُّوَلَة، ‏وهم أحد بطون قبيلة عنزة. وكانت تصلنا يومياً أخبار مناوشات بين ‏هؤلاء الفرقاء وبخاصة عند نهر الزَّرْقَا؛ لأن في عَمَّان نبع كبير يلتقي عنده ‏الفُرَقَاء المتخاصمون. وكان أهل السَّلْط قد تصالحوا مع بني صَخْر لكنهم ‏على خصومة مع العَدْوَان والرُّوَلَة. اهـ.‏

وفي ص200 قال: وقام زعيم العَدْوَان حمود الصَّالح بالاتفاق سراً مع ‏عساكر باشا دمشق ومع قبيلة الرُّوَلَة أعداء بني صَخْر، وهاجم الجميع ‏بني صَخْر. ورغم الخطة المحكمة صمد بنو صَخْر أمام هذا التحالف، ولم ‏يفقدوا سوى عدد من الرجال وحوالي ألفي رأس غنم. اهـ.‏

يحدثنا بوركهارت عن معركة قد حدثت بين التحالف المذكور وبني ‏صخر، ولم يحدد تاريخها، ولم يحدد – أيضاً – من روى له أخبار هذه الوقعة، ‏وهي ليست بمستغربة على قبيلة بني صَخْر، فهي قبيلة عريقة، معروفة ‏بالشجاعة والاستبسال عند لقاء العدو.‏

وفي ص208 مدح أهالي مدينة الكَرَك كثيراً ووصفهم بالكرم ‏والشجاعة، وذكر أن لهم ثمان (مضافات) أو مجالس عامة يستقبلون فيها ‏الضيوف، إلى أن قال: ومن المعروف في الكَرَك أنه كلما كان الرجل أكثر ‏كرماً مع الضيوف زادت شهرته وسمعته واتسع نفوذه. ولذلك يكثر ‏الضيوف في الكَرَك كل مساء. ويعرف البدو أنهم يصيبون هنا عشاء لهم ‏ولخيولهم فيأتون كثيراً إلى المدينة وينزلون ضيوفاً في إحدى المضافات، ثم ‏ينتقلون إلى مضافة أخرى وهكذا. ‏

وإليكم وصفاً لعادة الأهالي أيضاً: تعتبر عادة بيع السمن دليلاً على ‏البخل المكروه بينهم. وهم يرون أن امتلاك الإنسان لقطيع من الغنم أمر ‏طبعي، ومن عاداتهم – أيضاً – أن يكون لديهم كمية من السمن لتقديمه ‏للضيوف بسخاء. اهـ.‏

ويضيف: وإذا عرف عن رجل أنه يبيع السمن أو يبادله بسلعة أخرى ‏فلا أحد يتزوج شقيقاته أو بناته، وهم يلقبون رجلاً كهذا بلقب (بيَّاع ‏السمن)، وهو لقب كريه عندهم. ويتزاوج أهالي الكَرَك مع البدو، ‏وبخاصة مع قبيلة عنزة. اهـ.‏

قبيلة عنزة تصاهر من يكافئها في النسب. وأهالي الكَرَك غالباً هم من ‏قبيلة بني صَخْر العريقة، ومن هذه صفاتهم حتماً هم نظراء لقبيلة عنزة لا ‏شك.‏

يقول بوركهارت في أثناء تجواله في شبه جزيرة سيناء ص263: وإلى ‏مسافة قريبة من هناك أشار لي مرافقي إلى مكان قال لي أن بدوياً من ‏عرب الطور قد أوقف مكتوف اليدين ومربوط الرجلين لأنه سرق الحبوب ‏من مخزن لأحد أصدقائه. وفي الصحراء الكبرى الشرقية لا يكون بدو ‏قبيلة عنزة بمثل هذه القسوة؛ لكنهم لا يتورّعون عن معاقبة أي بدوي ‏يسرق شيئاً من حقيبة ضيفه. اهـ.‏

هو هنا يقوم بعملية مقارنة بين قبيلة عنزة وبدو شبه جزيرة سيناء في ‏طريقة التعامل مع المذنبين، وهو هنا يمدحهم جميعاً في عدم سكوتهم عن ‏المذنب؛ لكن العقاب وطريقة معالجة الخطأ هي التي اختلفت فقط لا غير.‏

وفي ص284 وفي شبه جزيرة سيناء قال: كان عيد محقاً فيما قاله ليلة ‏أمس. فقد لاحظ اللصوص النار التي أشعلناها. واقتربوا منا لكنهم ‏خافوا عندما نبح الكلب. ولذلك كمنوا لنا هكذا بين الصخور، كانوا ‏يراقبوننا ونحن ننطلق. ولو أنهم وصلوا إلى المكان الذي هاجمونا فيه قبل ‏دقائق قليلة فقط لتمكنوا من الاختباء وإطلاق النار علينا بسهولة ‏وقتلنا، ولكانوا لاحظوا بالتأكيد أنني لست بدوياً رغم ملابسي الفقيرة، ‏وأنني لا بد أن معي غنيمة لهم. وهم يعرفون أن سرقتنا لن تتم دون ‏مقاومة، وإن هرب بعضنا فسيشي بهم وسيدفعون ما أخذوه إضافة إلى ‏المطالبة بدم من يقتل أو يصاب منا. لهذا قرروا التخلص منا جميعاً دفعة ‏واحدة وبالتالي فلا أحد يعرف القاتل. وأنا على ثقة أن مثل هذه الفظائع ‏لا تحدث في المناطق الشرقية من الصحراء بين قبائل عنزة، إذ لم أسمع ‏بمثلها هناك. اهـ.‏

هو هنا يقوم بعملية مقارنة أخرى بين قبيلة عنزة وبدو شبه جزيرة ‏سيناء، ويُرجِّح كَفَّة قبيلة عنزة في هذا الجانب من حيث التمسك بالأخلاق ‏الفاضلة، مثل: الوفاء والنخوة والشهامة، وتورّعهم عن سفك الدماء بدون ‏سبب مقنع.‏

والذي لا يعرفه بوركهارت، أنك إذا طعمت أو شربت مع أي فرد من ‏عنزة فأنت آمن في جميع ديار قبيلة عنزة. وكذلك إذا أعطاك الأمان أي فرد ‏من عنزة فأنت آمن في جميع ديار قبيلة عنزة، فإننا – ولله الحمد – يجير ‏علينا أدنانا.‏

المصدر / قبيلة عنزة الوائلية في كتابات الرحالة والمستشرقين ، للمؤلف – فائز الرويلي

مقالات ذات صلة

النَّفْحَةُ المِسْكِيَّة في الرحلة المَكِيَّة

فريق التحرير

الوائليون في رحلة جوارماني من القُدْس إلى القَصِيْم

فريق التحرير

الليدي هستر ستانهوب بين الوائليين

فريق التحرير

حذف التعليق