الرحَّالة هو فتح الله الصَّايغ الحلبي، شاب سوري، يعتنق الديانة النصرانية، ولد بحلب على ما يظهر في عام 1204هـ/1790م، وبدأت رحلته من شهر شباط 1225هـ/1810م إلى صيف 1229هـ/1814م، تجوَّل خلالها في بوادي الشام والعراق والعجم وتجاوزها، على ما يذكر، إلى حدود إيران الشرقية حيث قابل الأمير سعد البخاري رئيس قبائل عرب الهند، ثم قطع الحَمَاد وزار الدِّرْعِيَّة، عاصمة الدولة السعودية الأولى في ذلك الوقت.
تحدث الصَّايغ في رحلته هذه عن العادات والأعراف البدوية، وعن القبائل التي اتصل بها، وذكر أسماء شيوخها وعدد مقاتليها وتكلَّم عن الدولة السعودية الأولى وحروبهم وغزواتهم على عرب الشام ووقائعهم مع الأمير الدَّرَيْعِي بن مَشْهُور الشِّعْلان، أمير الرُّوَلَة، ووصف عدداً كبيراً من المدن والقرى التي مَرَّ بها.
وقصة هذه الرحلة باختصار هي أن نابليون بونابرت كانت أفكاره توسعية، وكان يخوض صراعاً تنافسياً كبيراً مع بريطانيا في ذلك الوقت؛ لذلك أراد أن يوجد له حلفاء في بلاد الشام، ليشق طريقه من خلاله إلى الهند، حتى يأخذها من بريطانيا، فأرسل تيودور لاسكاريس في هذه المهمة، الذي نزل في حلب، وبحث فيها عَمَّن يعلمه اللغة العربية، فوجد الشاب فتح الله الصَّايغ الحلبي، الذي خسر في تجارته في جزيرة قبرص، فعرض عليه لاسكاريس ذلك، فقبل الصَّايغ هذا العرض.
وبعد مضي ستة أشهر تعلَّم فيها لاسكاريس شيئاً من العربية قراءة وكتابة، عرض لاسكاريس على الصَّايغ أن يقوما برحلة في البادية الشامية بهدف التجارة، فوافق الصَّايغ، وبدأ في الاستعداد لذلك. طبعاً إلى هذه اللحظة لا يعرف الصَّايغ الهدف من وراء هذه التجارة، وأن الهدف سياسي بحت، الذي اكتشفه فيما بعد.
كانت قبيلة عنزة هي أقوى قبيلة في البلاد الشامية، هذا مع انقسامها على نفسها إلى أكثر من قبيلة تتقاسم المراعي والموارد المائية هناك. لذلك نزل لاسكاريس – أو كما يسمي نفسه: الشيخ إبراهيم – على الشيخ مُهَنَّا بن فَاضِل المِلْحِم شيخ قبيلة الحْسَنَة (الاحْسَنَة) من عنزة، لكنه وجده يرتبط مع الدولة العثمانية بالعهود والمواثيق، زد على ذلك قلة عددهم مقارنة بالمهمة التي جاء من أجلها. فتحوَّل عنهم إلى قبيلة وُلْد علي من عنزة، فوجد شيخها ابن سْمَيْر – أيضاً – يرتبط مع الدولة العثمانية بالعهود والمواثيق، وله صُرٌّ يستلمه في كل سنة مقابل حمايته ونقله للمحمل الشامي في رحلة الحج السنوية المعتادة، وهم – أيضاً – قليل مثلهم مثل الحْسَنَة (الاحْسَنَة). لكنه في أثناء وجوده عند وُلْد علي سمعهم يتحدثون عن قبيلة كبيرة وقوية وشيخها مستقل لا يتبع أحداً، ألا وهي قبيلة الرُّوَلَة وأميرها الشهير الدَّرَيْعِي الشِّعْلان. فعزم على المسير إليهم، لكنهم بعيد، إذ كانوا في وقتها في الجزيرة الفُراتية، حول مدينة دير الزور، فأرسل فتح الله الصَّايغ – أو كما يسمي نفسه: عبدالله الخطيب – إليهم. فوجد قبيلة الرُّوَلَة وأميرها الدَّرَيْعِي كما وصفوا له، بل أكثر من ذلك.
كان الأمير الدَّرَيْعِي في وقتها على خلاف مع الدولة العثمانية، أسفر هذا الخلاف عن معركتين مع جيش الباشا العراقي، خرج منهما منتصراً في عام 1224هـ/1809م. وكان – أيضاً – على خلاف مع ابن مِلْحِم وابن سْمَيْر أقوى المشايخ في البادية الشامية، نظراً لأنهما قد سبقا الرُّوَلَة في الهجرة والنزول في أفضل الأماكن في بلاد الشام، وقدوم الرُّوَلَة من نَجْد والجوف بهذا العدد الكبير أحيا روح الصـراع والتنافس بين أبناء العمومة. مما جعل لاسكاريس يستغل كل هذه الخلافات في الاتفاق الذي وقعه مع الأمير الدَّرَيْعِي، وجعل القبائل توقع على وثيقة الاتحاد في عام 1226هـ/1811م، الذي كان موجهاً بالدرجة الأولى ضد الدولة العثمانية.
وبعد سقوط نابليون، ذهب لاسكاريس إلى القاهرة، التي كانت في وقتها تخوض حرباً ضروساً ضد الدولة السعودية الأولى بإيعاز من الدولة العثمانية، وفي القاهرة وافته المنية، والقنصلية البريطانية بالقاهرة على علم به وبتجولاته في بادية شمال الجزيرة العربية والشام، فوضعت القنصلية البريطانية يدها على أوراقه ويومياته، والتي لا يعرف مصيرها إلى الآن، مما حدا بصاحبه أن يذهب إلى القاهرة عندما علم بوفاة لاسكاريس، وقابل القنصل البريطاني وطلب منه هذه المتعلقات، فرفض القنصل ذلك، وطرده، فقام الصَّايغ بكتابة الرحلة من تذكّراته، وبعض تفصيلاتها من خياله الواسع، حاله كحال الكثير من الرحَّالة، الذين يحاولون أن يضفوا على رحلاتهم شيئاً من الحبكة الدرامية، البطل فيها – غالباً – هو وحده فقط.
وقام الصَّايغ ببيعها على الشاعر لامارتين عام 1248هـ/1832م، وهي الآن النسخة المخطوطة الوحيدة التي في العالم، وتوجد في المكتبة الوطنية بباريس، تحت رقم 2298.
الحقيقة هذه الرحلة قد حدثت فعلاً ومن قرأها يعرف ذلك، وخيال الصَّايغ الواسع يُستبعد كأي خبر غير صحيح، والتاريخ عموماً يحتاج إلى تمحيص، حتى السيرة النبوية التي خدمها العلماء في الماضي والحاضر وجدنا فيها ما ليس منها، وقد ألَّفَ العلماء في ذلك: صحيح السيرة النبوية. فما ظننا بغيرها من أخبار ومؤلفات تاريخية.
قبيلة عَنَزَة في رحلة فتح الله الصَّايغ
روى فتح الله الصَّايغ في ص75 في رحلته عام 1225هـ/1810م عن رجل من أبناء البادية يُدَعَى عبدالله الشاعر، من دير الشُّعَّار، وهي قرية على حافة نهر الفُرات، سأله فتح الله عن الأمير الدَّرَيْعِي بن مَشْهُور الشِّعْلان قال: قلت له: يا عبدالله إن الناس تلهج بذكر الدَّرَيْعِي كثيراً، فمن هو هذا الرجل من الناس؟ قال: يا سيدي إن الدَّرَيْعِي رجل عظيم بين أبناء عصره، شجاع، عظيم بالحرب شديد بالقتال، جَرّبته المعارك، فارس لا يوصف، له معارك شتّى انتصر بها جميعاً مع العرب على الحضر، حتى أنه لا يحسب حساب الوهابي نفسه( ). ومن جملة أفعاله أنه كسر أرضي( ) وزير بغداد الذي هو بقدر سلطان اسلامبول. قلت: وكيف [كان] ذلك؟ قال: اعلم يا سيدي أن الدَّرَيْعِي نهب ذات يوم قفل بغداد، وكان آتياً من دمشق. فاغتاظ الوزير من ذلك ولكنه لم يُرِ على نفسه حتى يتم خيانة العثماني. فأرسل مكتوب أمان وراية مصحوبة بأقسام عظيمة إلى الدَّرَيْعِي أن يقوم وينزل إلى بغداد لأجل غرض ضروري وفيه خير له. فمن طبع العُرْبَان عدم الخيانة وقلبهم سليم، فصدَّق [كلام الوزير] ونزل إلى بغداد بعشرة خيَّالة فقط. فحين دخل على الوزير أمر بحسبه وتقييده بالجنزير هو والرجال الذين معه. وثاني يوم طلب منه ألفي جمل، وخمسة آلاف رأس غنم، وخمسين فرساً كُحَيْلَة، وعشرين هجيناً أو يقتله. فقال له الدَّرَيْعِي: على الرأس والعين، أدفع جميع المطلوب، ولكن إذا أمَرْت، فإن ابني يكون رهناً مكاني، وأنا أخرج لأدبر المطلوب. فقبل الوزير ذلك وحالاً أرسل الدَّرَيْعِي وأحضر ابنه صحن، وطلع هو من السجن. وفي مدة خمسة أيام ورد جميع ما ذكرناه زائداً غير ناقص. فأطلق الوزير صحناً. فعندما رأى الدَّرَيْعِي ابنه عنده نهب أول قفل أتى من حلب إلى بغداد، وابتدأ يضرب وينهب ضِيَع وقرى بغداد، وزاد على ذلك حتى قطع السابلة على بغداد فتضايق الوزير من ذلك وابتدأ يعد مهمات توجيه الأرضي حتى يضرب الدَّرَيْعِي. فجمع العساكر والخيم والمدافع وكامل المهمات الواجبة، وخرج من بغداد بأرضي [يضم] ثلاثين ألف مقاتل، بكل نظام وتدبير، وطقومه مثل أرضي همايون [جيش السلطان]. فحين بلغ ذلك إلى الدَّرَيْعِي تأخر عن بغداد نحو يومين وجمع عربانه وغير عشائر يقود عليهم فوصل الأرضي ونصب [خيامه] أمام أرضي [جيش] الدَّرَيْعِي. وثاني يوم جرت حرب عظيمة وقتل جملة فرسان من الفريقين، وثاني يوم كذلك وثالث يوم أيضاً، فلم يكسب أحد بل كانا متساويين بالقوة. ورابع يوم انسحب الدَّرَيْعِي ليلاً مع كامل العُرْبَان والبيوت إلى قرب بغداد ليقطع الجَلْبَ عن الأرضي، فظنَّ الوزير أن الدَّرَيْعِي ولَّى هارباً فسُرَّ وقال لقد ذهب وكفانا خيره وشره، لأن الوزير كان خائفاً من الكسرة. وأما الدَّرَيْعِي فإنه ركب تلك الليلة ذاتها، واستصحب معه خمسة آلاف خيَّال من المجربين بالحرب والقتال، ومضى بهم ليلاً وصَبَّح أرضي الوزير، قبل بزوغ الفجر، فقسَّم خيله خمسة طوابير، ودار بهم على أطراف الأرضي، وعمل إشارة، وهجم وهجمت الطوابير الخمسة بلحظة واحدة كأنهم الأسد الخاطف ودخلوا أرضي بغداد وابتدأ ضرب السيف والقتل. وكان عساكر العثماني أكثرهم نائمين ومعلقين أسلحتهم، فقاموا من نومهم مثل المجانين، وصاروا يقتلون بعضهم بعضاً، فانكسر الأرضي وصاح فيه غراب البين، فنظر الوزير إلى ذلك واضطرب وخاف جداً، فما وعى الناس إلا وقد ركب بطاق المسد، من غير بابوج، وانهزم ودخل بغداد، وكذلك العساكر، منهم من قتل ومنهم من رمى روحه بالدِّجْلَة، وغنمت العُرْبَان جميع ما حوى الأرضي، من خيل وسلاح وعدة خيل وقومانية وذخائر ودراهم وملبوس وخيم ومدافع، وجميع ما كان بالأرضي من كلي وجزئي، شيء كبير القيمة. وقُتل من العسكر عدد وافر. ودخل الوزير بغداد ولحقه من استطاع وأغلق الأبواب، وظن أن العُرْبَان لاحقون به إلى داخل البلد، ودخل عليه الخوف والوهم. ووقعت سطوة الدَّرَيْعِي في قلوب أهالي بغداد، حتى وصلت إلى الأطفال يخوفونهم بالدَّرَيْعِي لكي يناموا. وشاع خبر الدَّرَيْعِي بعد ذلك وكبر صيته عند العرب والحضر حتى وصل إلى الوهابي وإلى كامل البادية والمسكون. والآن لا يوجد بين العُرْبَان من هو أكبر منه. ومن جملة أطباعه أنه يحب الكبر والمال، والمشي في الدروب الصعبة والوصول إلى المعالي. وهذه مزايا الدَّرَيْعِي بن شِعْلان. فحكيت جميع ذلك إلى الشيخ إبراهيم [لاسكاريس] فسُرَّ وقال: هذا هو الرجل الذي يتم مطلوبي. وفرح الشيخ إبراهيم وكان مسروراً مني جداً. اهـ.
تحدث ابن بِشْر في تاريخه عن هذه المعركة، فقال عن حوادث سنة 1224هـ/1809م: «وفي هذه السنة، تم حشد بادية العراق من شَمَّر وجميع بوادي العراق، وأمدهم سليمان باشا صاحب العراق بعسكر، فسار الجميع وقصدوا عنزة والظَّفِيْر في ناحية العراق، ورئيس عنزة يومئذ الدَّرَيْعِي بن شِعْلان، ورئيس الظَّفِيْر الشَّايُوْش بن عَفْنَان، فالتقت البوادي وأتباعهم وتنازلوا مدة أيام، وأيقن عنزة والظَّفِيْر بالكسر، ثم ندب بعضهم بعضاً، وكرّوا كرّة رجل واحدة على جموع أهل العراق فهزموهم هزيمة شنيعة وقتلوا من العسكر والبادية خلقاً كثيراً، وأخذوا منهم أموالاً كثيرة من الخيل والإبل وغير ذلك مما لا يحصى وظهروا بها إلى نَجْد»( ).
وفي ص80 ذكر فتح الله الصَّايغ قصة عن الشيخ مُهَنَّا بن فَاضِل المِلْحِم مع وزير الختم يوسف باشا، أدرج فيها فتح الله رأيه الذي هو مردود عليه، إذ هي تدل على مكانة الشيخ مُهَنَّا ومعرفة الناس له، وتدل – أيضاً - على تواضع الشيخ مُهَنَّا وبساطته. قال فتح الله: أن وزير الختم، حين رجع من مصر بعد أن غادرها الفرنسيون، مر على دمشق بجميع الجيش الهميوني( )، فصار كبار البلدة ووجهاؤها وأعيانها يأتون للسلام عليه. وبطريق الإتفاق كان مُهَنَّا حينئذ بدمشق، فتحسَّنَ عنده أن يذهب ويسلم على الوزير، فدخل عليه وهو بطاق القميص الوسخ والمشلح الأسود وكوفية على رأسه وجزمة قديمة في رجله. فدخل على الوزير وسلم عليه على عادة البادية وقال: السلام عليك يا يوسف، يا وزير السلطان، عساك بخير ولعلك عدل، ثم جلس بجانب الوزير من غير إذن ولا دعوة. فاغتاظ الوزير منه واحمرت عيناه لأن هذا شيء يخالف المراسيم العثمانية، وعلى الخصوص أنه الصدر الأعظم، عائد من مصر منصوراً، ويرى نفسه أكبر من سلطان اسلامبول، فغضب وأمر القوَّاصَة( ) أن يأخذوا مُهَنَّا ويقتلوه. فقبضوا عليه وطلعوا به إلى خارج الديوان. أما مُهَنَّا، فبسبب طرشته وعدم معرفته باللغة التركية ونظافة قلبه، وبالنظر – أيضاً – إلى عادات العرب أن يطعموا الضيف حال وصوله عندهم خوفاً من أن يكون جائعاً، فإنه ظنَّ أن الوزير أمر له بالغداء. فحين أخذوه إلى وسط السرايا ليقتلوه، ترامى جميع الحاضرين، من الأعيان ومن الصيارفة اليهود الذين شاهدوا ما جرى، على أقدام الوزير وقالوا: يا سيدنا احذر عاقبة عملك، فهذا يقال له: مُهَنَّا الفاضل أمير عَنَزَة، هذا الذي يغفر( ) الحج ويرد عنه غوايل العرب. ومن دون إذنه لا يمشي الحجاج. وفضلاً عن ذلك إن قتلته لا تستطيع بعدئذ أن تخرج من دمشق بسبب شر العُرْبَان. فبردت همة الوزير وأمر حالاً بِرَدِّه، فعادوا به أمام الوزير، فأجلسه إلى جانبه وأمر له بالقهوة فقال مُهَنَّا بباله: صحيح أن العثماني كلب بخيل!! كأنه ندم على الغداء فاستعاض عنه بفنجان قهوة!! لأن مُهَنَّا، على الرغم من كل هذه الضجة لم يفهم جلية الأمر. وبعد القهوة أمر الوزير له ببدلة وحوائج من ملبوسة، فأحضروا له قنبازاً مقصباً عظيماً وشال كشمير وفروة سمّور، فألبسوه إياها. وأمر الوزير بألف غرش فأحضروها حالاً. وشرب قهوة مرة ثانية. وبعد ذلك صاح مُهَنَّا على العبيد الذين كانوا معه، وكانوا ثلاثة، فحضروا أمام الوزير، فَشَلَحَ القنباز وأعطاه لواحد منهم، والشال للثاني والفروة للثالث. فتعجب الوزير منه وقال للترجمان: قُل لمُهَنَّا كأنه ما قبل هديتي؟ قال مُهَنَّا: يا ترجمان، قل لوزير السلطان أننا نحن العرب لا تغوينا الملابس الجميلة ولا نتكبر بالملبوس، أنا ابن مِلْحِم وأبي الأمير فَاضِل، وإني معروف عند عشاير العُرْبَان سواء كنت لابساً هدوماً (يعني ثيابه) زَيْنَات أو شَيْنَات (جميلة أو زريَّة)، مفهوم وكبير عليهم. فتعجب الوزير من كلامه وسُرَّ منه بالرغم عنه. اهـ.
غادر فتح الله الصايغ الحسنة (الاحْسَنَة) من عنزة، وذهب فيما بعد إلى وُلْد علي من عنزة والذين منازلهم جنوب دمشق في حوران. قال فتح الله الصايغ في ص87 عن ذلك: فبعد قليل من الزمن إذ حضر هلال ومعه جمَّالان وإثنان من البدو غيره، حتى يحملونا عندهم. فلزم أن أجد حالاً مكاناً للجِمَال وأدخلت العرب الدير. فترحبنا بهم وعملنا إكراماً زائداً وأخبرونا أن أهلهم، من قبيلة وُلْد علي، نازلون على ماء المُزَيْرِيْب وأنهم بعيدون عن دمشق نحو ثلاثة أيام. فبعد يومين دبرنا شغلنا وطلعنا من دمشق في 15 آذار 1811 [20 صفر 1226هـ]، وكان صار لنا سنة وثمانية وعشرون يوماً منذ مغادرتنا حلب. فذهبنا مع العرب ونمنا ليلتين بالبرية من غير مأوى، وهو طريق معروف من دمشق إلى المُزَيْرِيْب. وفي اليوم الثالث وصلنا عند العرب، فوجدنا نزلاً عظيماً نحو ألف بيت بمواشي وخيل عظيمة، فنزلنا في بيت دُوْخِي بن سْمَيْر. فعمل لنا إكراماً زائداً وذبح لنا ذبيحة، حيث كان صار بيننا معرفة، من يوم الذي جاء إلى بيت مُهَنَّا، لأجل مادة ناصر. وهو رجل عظيم عاقل مدبر يومى إليه، [أي الشيخ دُوْخِي]، محبوب من عُرْبَان قبيلته التي تعد نحو خمسة آلاف بيت، وعليهم رؤساء من أقربائهم، وكذلك القبائل الثلاث الأخرى وهي بني صَخْر والسِّرْحان والسَّرْدِيَّة، فهم أحبابه ومعه في كل أمر يريده، وطمعهم قليل ليس مثل قبيلة مُهَنَّا، رزقهم كثير وخيلهم عظام مشهورة بالصيت. اهـ.
ومن عند وُلْد علي ذهبوا إلى قبيلة السِّرْحَان، ومنهم إلى قبيلة السَّرْدِيَّة، فقبيلة بني صَخْر، ثم أخذوا دليلاً من عرب بني سعيد، وفي أثناء الطريق علموا بأن الأمير الدَّرَيْعِي قد (رد النِّقَا) أي أعلن الحرب على هذه العشيرة، فخافوا وغيروا طريقهم، ونزل الصَّايغ ولاسكاريس في القريتين، وبعد مشورة وأخذ ورد كشف لاسكاريس عن بعض أهدافه السياسية للصَّايغ. قال الصَّايغ في ص95 عن لاسكاريس قال: اعلم يا ولدي أن سفري هذا مقسوم إلى عشر نقاط مرتبة من حين خروجي من باريس:
أولاً: الوصول من باريس إلى حلب بالسلامة.
ثانياً: الحصول على إنسان موافق لأوامري ومطيع لأقوالي مثلك.
ثالثاً: تعلمي اللغة العربية وتقويتي بها.
رابعاً: الوصول إلى تدمر.
خامساً: الدخول عند العرب بطريقة مناسبة تغطي أهدافي.
سادساً: كشف أحوال العُرْبَان وأمورهم معرفة كبارهم واكتساب صحبتهم.
سابعاً: رمي الاتحاد والوفق والمحبة بينهم حتى يكونوا جميعهم برأي وعمل وقول ويد واحدة.
ثامناً: إبعادهم عن محبة العثماني وعشرته.
تاسعاً: معرفة كافة الصحاري ومياهها ومنازلها والمسالك الملائمة إلى حدود الهند.
عاشراً: الرجوع بالسلامة إلى بلاد سورية.
فقلتُ: وبعده يا سيدي، ماذا يكون الهدف من ذلك؟ فقال: أنسيت الشروط؟ لا تسألني عن شيء بل أنا من نفسي رويداً رويداً أعرفك إذا اقتضى الأمر، فإلى الآن يكفي الذي قلته، فَدَبِّر حالك واعلم أن لا بد من الوصول عند الدَّرَيْعِي ولو متنا. اهـ.
تقرر أن يذهب فتح الله الصَّايغ وحده للأمير الدَّرَيْعِي وهكذا صار.
قال فتح الله الصَّايغ في ص102 وذلك في أثناء زيارته للأمير الدَّرَيْعِي بن مَشْهُور الشِّعْلان: بعد مسير ثلاثة أيام، عند المساء، كشفنا على نزل الدَّرَيْعِي، وكان نزلاً عظيماً نحو ألفي بيت شَعْر، الطنب بالطنب، ورأينا من بعيد من المواشي والجِمَال ما يغطي عين الشمس، ولم نرَ مثل ذلك عند غيره من العُرْبَان.
فتقدمت إلى بيت الدَّرَيْعِي، وكان الوقت بعد غياب الشمس، فدخلت وسلّمت عليه، فرحب بنا، وحالاً أمر بالعشاء. وبعد العشاء سألني من أين وإلى أين يا شاب؟ قلت: يا سيدي من حلب إلى عند جنابك بغرض..( ) فقال: حَلَّتْ البركة بمجيئك، غرضك مقضي بعون الله، ولكن عادة الضيف عندنا يقعد ثلاثة أيام وبعد ذلك يتكلم على غرضه، قلت: السمع والطاعة. ثم نمنا وثاني يوم كتبت حالاً إلى الشيخ إبراهيم وإلى موسى الوردي، وأعطيت المكاتيب إلى مصطفى وزودته بالدعاء وتوجه إلى القريتين.
وجلسنا مع الدَّرَيْعِي نتحدث، وهو رجل ذو نخوة زائدة، عمره نحو خمسين سنة، لحيته كوساة بيضاء، جسيم، أسمر اللون، جريء. وجميع ما سمعنا عنه موجود به حقيقة. وله ولدان، واحد اسمه صَحَن وهو الأكبر، والثاني سُعْدُوْن. وهما متزوجان ومقيمان عنده بالبيت. وبيته كبير وهو أكبر مرتين من بيت مُهَنَّا. وعربه أغنى نوعاً ما من غير عشائر، وعندهم الخيل العظام المشهورة ويقال لقبيلته: الرُّوَلَة، وهي تحوي على خمسة آلاف بيت. هذه هي عشيرته، إلا أنه كثيراً من العشائر تنقاد له، بعضها فَرْضَاً، وبعضها خوفاً وبعضها محبة. فبان لي أنه رجل على قدر حاله في كل أمر، وأن جميع ما قيل عنه صحيح. ومن حسن التوفيق أنه لم يكن عنده كاتب، فصار كلما احتاج إلى ورقة أو مكتوب يسخرني به، إلى أن مضت الأيام الثلاثة، وهي مدة إكرام الضيف، فما قال لي شيئاً لأن عندهم من العيب أن يسألوا أحداً ما هو غرضك، لأن معنى ذلك أنهم يرغبون في أن يذهب من عندهم. ولكن العادة أن المسافر يبادر بالحديث. فبعد ثلاثة أيام قلت: يا أمير، انتهت مدة إكرام الضيف وحَلَّ وقت الذهاب. قال: يصعب علي فراقك، فقلت: وأنا كذلك، واعلم أن سبب مجيئي عندك هو التوجه إلى بغداد بمسألة ضرورية، ولكن محبتك أنستني أشغالي وأود أن أكون في عشيرتك دائماً. فسُرَّ من هذا الكلام وقال: أنت مثل ولدي، والذي تشور علي به فإني سأعمل به، لأنه كان رأى مني في مدة هذه الأيام الثلاثة محبة وخدمة وآراء جيدة، لأني عملت كل جهدي خلال هذه الأيام كي أرضيه وأدخل في عقله وقد حصل مطلوبي. اهـ.
وفي نفس السياق قال فتح الله للأمير الدَّرَيْعِي الشِّعْلان: فابتدأت أقول له: يا سيدي بما أنك جئت إلى هذه الديرة وعمرك ما زرتها، فدعنا نقطع للشامية ونقضي الغيض (أعني الصيف) في هذه الديرة، ومتى حَلَّ الخريف نُشَرِّق على حسب عوايد عشائر عنزة. وبهذه الطريقة تكون أولاً: قهرت عدوك وضايقته في الأرض، ثانياً: يصيرلك هدايا من القرى ومن عشاير العرب، ثالثاً: يصير لك اسم بهذه الديرة، رابعاً: تكون شاهدت براري بلاد سورية، وأخيراً: ترتد إلى ديرتك كما كنت. فقال: هذا نِعْم الشور.
وثاني يوم نبَّه على الرحيل، ورحلت العُرْبَان بعد طلوع الشمس كأنهم الغمام الأسود. ومشى ابنه صَحَن ومعه خمسون خَيَّالاً يتقدمونهم، وبعده هو طابور خيل من نحو خمسمائة خَيَّال، وأركبني فرساً من خيله كُحَيْلَة عظيمة، وجرت الظُعُن (أعني البيوت) خلفنا مثل الجراد، وأكثر النساء في الهوادج المُجَوَّخَة، وعلى الخصوص بيت امرأته وكناته في الهوادج، والعَبْدَات حولهن، وكان على ذلول أحد العبيد خرج ملآن خبزاً وتمراً يُفَرِّق منه على الجائعين من الناس، وكلما مشينا ثلاث ساعات يأمرنا بالنزول حيث يوجد منتزه، فيعملون القهوة ونستريح قليلاً ثم نركب، إلى أن وصلنا إلى المحل المقصود وهو على حافة الفُرات، منزلة يقال لها: الحلاجة. فنصبوا البيوت بكل هدوء وركون، وبلحظة صارت بلدة واشتعلت النيران فبتنا تلك الليلة، وثاني يوم رحلنا ونزلنا بقرب الزور، وثالث يوم رحلنا وقبل الظهر وصلنا إلى الزور. فركب فحل الخليل، وبصحبته نحو ألف خيَّال، ولاقى الدَّرَيْعِي، وصار لعب خيل وانشراح، ودعى الدَّرَيْعِي عنده، فرحنا تلك الليلة وتعشينا عند فحل. فكان الدَّرَيْعِي وأولاده وأخوه فجر، وهو أكبر منه بالعمر لا بالمعرفة والقدر، وجميع أقربائه، ومعنا نحو مئتي خَيَّال، فتعشينا عنده وبعدها ركبنا ورحنا إلى البيوت.
المصدر / قبيلة عنزة الوائلية في كتابات الرحالة والمستشرقين . للمؤلف – فائز الرويلي