شهدت بداية الضعف في ملك بني امية أواخر القرن الأول الهجري قيام ماعُرف بالأدبيات العربية (الحرب القيسية اليمنية) ،او (حرب عدنان وقحطان) ،وبغض النظر عن نسب عدنان وقحطان فاصطلاح ان هذه الحرب (قيس يمنية) ليس دقيقاً ، لابل ليس صحيحاً كلياً ، كما ان وضع بعض محللي الاحداث التاريخية هذه الحرب كسبب وعامل من ضمن عوامل انهيار الدولة الاموية ليس دقيقاً ، بل انه نتيجة الانهيار والاضمحلال الاموي نفسه وتحول دولتهم الى اقطاعيات يتحكم فيها ضعاف العقول والحنكة السياسية مثل نصر بن سيار الليثي.
وهذه الحرب هي إعادة احياء لحرب (ربيعة وقيس) الاولى التي جرت في بداية العهد الاموي الثاني (عهد مروان وبنيه) ، حيث بدأت سنة 64هـ واشتركت قبائل ربيعة ضد قيس وكانت على جبهتين : اليمامة ، والجزيرة الفراتية ، وانتهت الحرب عام 73هـ بتدخل من عبدالملك بن مروان الذي توسط للصلح بين زعماء قيس وتغلب في الجزيرة والف بين قلوبهم وقضى على خوارج ربيعة في البحرين ونجد لتنعم الامة بسلام لبضعة عقود حتى بدأت الحرب الثانية التي نلخص احداثها في هذه المقالة .
ان ضعف الخلفاء الامويين بعد موت آخر الأقوياء وسيطرة السفهاء على الدولة أدى الى اندلاع الحرب مجددا نهاية العصر الأموية ،وكان الحلقة الأخير في هذا البيت العربي ونقلة تاريحية هامة في حياة الامتين العربية والسلامية ،وهنا سنعالج عرضا تاريخيا مبسطا عن الحرب الثانية ودور قبائل الأزد وربيعة في قيام الدولة العباسية عام 132هـ.
]ممهدات الحرب/
تحدثنا أعلاه عن الحرب الأولى ، ونستطيع الزعم ان هذه الحرب التي نتحدث عنها في المقال ليست الا امتداد لما حدث بالحرب الأولى بيد أن الفرق اشتراك الأزد بجانب ربيعة في هذه الحرب ، وثمة أضواء على تلك الفترة سنلقيها على حيثيات هذا الصراع القبلي وبيان حقيقة اطرافه وهم :
1-ربيعة وحلفاءها أزد قحطان او مايُعرف باليمن حينها.
2- العرب الموالون للدولة الاموية واغلبهم من مضر بقيادة نصر بن سيار الليثي.
كان نصر بن سيار احد اهم ولاة بني امية تلك الفترة ، وكان من ضمن جبهة خراسان ، وهو احد قواد جبهة الاتراك الهامين ، وقد اخذ نصر يمارس سياسة التعصب لقومه من مضر على حساب قبائل اليمن من الازد او من يواليهم من ربيعة ، يزاد على ذلك ان دعوة ابي مسلم الخراساني كانت في بداياتها تدعوا سرا الى آل محمد والطعن بخلافة بني امية ، وقد وجدت دعوة ابي مسلم بادية ربيعة والأزد مكانا خصباً لدعوتها رغم عدم إعلانها ، ونتيجة لكراهية الربعيين لنصر هذا من بسبب عنصريته ، فقد كانت ربيعة تتباطاً ان اتت الاوامر اليهم بالنفير والحرب ضد الترك ، ومن ذلك ماحدث سنة 106هـ ، ففي احد الغزوات على الاتراك لقائد اموي هو (مسلم بن سعيد) ، تم استنهاض القبائل والقواد ، ولم تستجب ربيعة ، بل انهم ارسلو لأحد القادة من الازد بانه من تغلب أي من ربيعة وان عليه حمايتهم من القواد الامويين ، وان ربيعة سترحل عليه ان هو منعها من تحقيق رغبة نصر ومن معه من قبائل مضر وهم تميم ونمير وكلاب واسد .
قام نصر وبتوجيه من القائد مسلم بمعاقبة المتخلفين عن الغزو ومنهم ربيعة وحلفائها الازد ، فاستعدت ربيعة لمواجهة نصر ومن معه من تميم واسد ونمير، ووقعت معارك شديدة انتهت باستسلام الربعيين وخضوعهم لشروط نصر بن سيار بينما هزم حلفائهم الازد بعد ان رفضوا الاستسلام ، وهذا جعل نصر يتشفى لتميم ضد ربيعة بقصائده التي تطفح بالتعصب لقبيلته تميم :
فما أنا بالواني إذا الحرب شمـرت=تحرق في شطر الخميسين نارهـا
ولكنّني أدعو لها خـنـدف الـتـي=تطلع بالعبء الثقـيل فـقـارهـا
وما حفظت بكر هنالك حلـفـهـا=فصار عليها عار قيس وعـارهـا
فإن تك بكر بالعـراق تـنـزرت=ففي أرض مرو علها وازورارها
وقد جربت يوم البـروقـان وقـعة=لخندف إذ حانـت وآن بـوارهـا
أتتني لقيس فـي بـجـيلة وقـعة=وقد كان قبل اليوم طال انتظارهـا
ويتضح التعصب والشماتة من ابيات نصر لقبيلة بكر بن وائل في هذه الابيات ، وخاصة اشارته الى ان بكر خذلت حلفائها من الازد .
وبهذه الحرب ازداد نفوذ نصر بن سيار ، واصبح وكانه الحجاج بن يوسف الجديد من حيث شدة ولاءه للبيت الاموي ، ولهذا القائد دور في اذكاء التعصب القبلي مما ادى في النهاية الى انهيار الدولة الاموية .
ادت سياسة نصر وتعصبه الغير مبرر ضد ربيعة الى ان يستغل العباسيون ودعاتهم الامر جيدا ، فيكثفون دعوتهم حتى بدات تطفوا على السطح وتظهر للعيان مما يجعل السلطات الاموية ايام هشام وتحديدا سنة 120هـ تعين نصر بن سيار اميرا وواليا مطلق اليدين على خراسان وديار ربيعة ، ورغم محاولة احد اشهر شيوخ ربيعة وهو عبد الكريم بن سليط الحنفي أن يثني هشاما عن قراره بتعيين نصر الا ان هشام اصر على نصر ، بل وقال لعبد الكريم الحنفي : أن ربيعة لاتُسد بها الثغور ! ، وذلك ان عبد الكريم الحنفي اقترح على هشام عدد من شخصيات ربيعة لتولي خراسان ، كما أقترح عبد الكريم الحنفي ان يتولى خراسان شيخ اليمن او ( الازد ) وهو جديع الكرماني الا ان هشاماً رفض جديع ايضا وهو يعرف ان الازد وربيعة حلف ضد مضر لاشك .
وكان احد اهم مهام نصر الموكلة اليه هو تتبع المنضمين لشيعة بني هاشم وداعي تنظيمهم الناشط ابو مسلم الخراساني ، ولأن ابا مسلم مولى من موالي بني عجل من اللهازم من بكر فقد كانت قبائل ربيعة هي المغذي الرئيسي لدعاة ابي مسلم المتشيعين لبني العباس .
وكان للأزد علاقة قوية في ربيعة منذ تحالفهم التاريخي ضد بني قيس ومضر عموماً ، وقد اراد نصر وحاول مرارا تفكيك هذا الحلف ، بل اراد نصر ايضاً ان يضم بلاد ربيعة الى سلطته مباشرة وذلك عن طريق توحيد ولايتي العراق وخراسان في ولاية واحدة ، والعراق كان يحكمه أمير اموي آخر هو (يوسف بن عمر) ، فخشي الاخير اطماع نصر وحاول الوشاية به لهشام لعزله عن خراسان الا انه فشل فبقي كل منهم على ولايته . غير انه على الصعيد الفعلي فان نصر بن سيار كان يحكم القبائل كلها بما فيها ربيعة والأزد حكما مباشراً .
ثورة ربيعة والأزد ضد نصر بن سيار
لم يظهر الربعيين وحلفائهم الازد أي ولاء ظاهر وعلني لابي مسلم الخراساني ، واستمروا بتبعيتهم الى نصر منذ سنة 106هـ الى سنة 129ه رغم التعصب المضري ضد ربيعة والاستهزاء بقبائل الأزد فقد بقي كل منهما على ولاءه لبني أمية منتظرين نهايتها وإعلان الدولة العباسية رسمياً .
ففي سنة 129هـ وبعد ظهور الدعوة العباسية علناً، اخذ نصر موقفا جديدا وبدأ ملاطفا لربيعة والازد لكي يضمن وقوفهم معه عند المواجهة مع ابي مسلم الخراساني الذي كان لازال على الاطراف وجيشه اغلبه موالي ويكاد يخلوا من القبائل ولذا طمع الخرساني باستمالة الأزد وربيعة ومحاربيهم للإجهاز على ماتبقى من دولة بني امية بسواعدهم.
يبدوا ان ابا مسلم كان يدس في صفوف القبائل من يوقد الفتنة ، او انه نصرا ذاته ،وان أغلب مؤلفي العرب المتأخرين يتهمون اتباع العباسيين بهذه الفتنة ويجعلون نصر بريئا منها، ومنها شعر انتشار يذم الازد وقبائل قحطان ويمجد مقابل ذلك بمضر :
ولو كانت بنو قحطان عرباً=لما ذهبت صنائعه ضـلالا
وكان جديع بن علي زعيم الازد يلوم نصر على تأييده للمقولات عن عرب اليمن ويغلظ له بالقول ، فارتكب نصر بن سيار غلطته القتالة وامر بسجن جديع سنة 130هـ .
الا ان جديعا الكرماني هرب من السجن ، وجمع جموع الأزد واستعد لمقاتلة نصر الذي ورط نفسه بحماقته واستهانته بقبائل العرب .
جديع الكرماني يجدد الحلف الازدي الربعي
وبهروب جديع الكرماني التف الأزد حوله ، واتصلو بحلفاءهم من ربيعة مذكرين اياهم بالعلاقة التاريخية بين قحطان وربيعة .
وتعود جذور هذا التحالف الى ايام ملوك حمير في اليمن ومنذ الجاهلية ، فقرر جديع الكرماني احياء هذا الحلف فأرسل الى احد ابناء سلالة حمير الباقين والذين يحتفظون بوثيقة الحلف ليعرضها على ربيعة ويطلب بموجبها منهم الانضمام للقتال ضد نصر بن سيار عدوهم المشترك.
وهكذا دارت الايام واعاد التاريخ نفسه ، فكانت بكر ايام زعيمها وزعيم ربيعة مالك بن مسمع قد طلبت الحلف مع الازد ضد تميم وسخر منها وقتها بعض الازد ، هاهم الأزد اليوم هم من يطلب الحلف ، بل ان زعيمهم يضطر الى ان يجد نص الحلف بوثيقة عند آخر رجل موجود من سلالة ملوك حمير وهو عمر بن ابراهيم .
اجتمعت الازد وقبائل ربيعة ضد نصر ومن معه من تميم وقيس عيلان، وابا مسلم الخاراساني يشاهد هذا الوضع ولم يتدخل لنصرة أي طرف ، وقاد ربيعة في هذه الحرب كل من: المثنى الربعي وابا الميلاء ، واشتد القتال بين الطرفين ، وهُزم نصر وقتل ابنه ، ثم طلب الصلح من جديع الكرماني ومن ربيعة خوفا من ان تعطي هذه الفتنة الفرصة لابي مسلم الخراساني .
ابلغ جديع نصر بن سيار ان دافعه للخروج هو كره نصر للازد وتعصبه لقومه ، واقترح على نصر ان يعتزل امر خراسان وان يولى عليها وعلى جميع عربها رجل من ربيعة كطرف محايد ، فرفض نصر عرض جديع الكرماني ، بزعم ان تعيين رجل من ربيعة يرفضه الخليفة مروان بن محمد .
جديع الكرماني وربيعة ينضمون لابي مسلم الخراساني
كان ابو مسلم يدعو بالخلافة للامام ابراهيم بن محمد من احفاد الصحابي المشهور عبد الله بن عباس ، لكن ابراهيم هذا قتل في الاردن على يد جنود مروان في الوقت الذي كان ابو مسلم يدعوا له في خراسان ، وبعد مقتله بايع بني العباس (ابو العباس) والذي لقب فيما بعد بـ ( السفاح ) .
امر ابو العباس باعلان الثورة علنا في خراسان ومراسلة جديع الكرماني وقبائل ربيعة واخذ البيعة منها للدولة الجديدة ، فاسقط في يد نصر بن سيار الليثي ، وعرف انه الآن سيحصد نتائج تكبره وشماتته بربيعة والأزد ، فكما كان يسخر من ربيعة عند انتصاره عليهم سنة 106هـ هاهو الآن يغير لهجته ويخاطب ربيعة قائلأ :
أبلغ ربيعة في مرو وإخـوتـهـا=أن يغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ما بالكم تلحقون الحرب بـينـكـم=كأن أهل الحجا عن فعلكم غـيب
وتتركون عـدواً قـد أظـلـكـم=ممن تأشب، لا دين ولا حـسـب
ليسوا إلى عرب منا، فنعـرفـهـم=ولا صميم الموالي، إن هم نسبـوا
قوماً يدينون ديناً ما سمـعـت بـه=عن الرسول، ولا جاءت به الكتب
فمن يكن سائلي عن أصل دينـهـم=فإن دينهم أن تقـتـل الـعـرب
هنا يتهم ابا مسلم بان دعوته غير عربية وضد العرب ، وان على الربعيين عدم الانضمام لها ، ولكن ربيعة لم تعره اهتماماً بل استمرت على عقد ولائها للعباسيين مع حليفها جديع الكرماني ، ففكر نصر بالانتقام من جديع حليف ربيعة ، فراسله قائلاً انه موافق على تعيين امر خراسان لرجل من ربيعة كما طلب جديع الكرماني سابقاً ، فذهب له جديع الا انه غدر به وقتله وصلبه ، وقال في شعره يؤكد ان كرهه لربيعة كان بسبب حلفهم مع الازد :
لعمري، لقد كانت ربيعة ظافرت=عدوي بغدر حين خابت جدودهـا
وقد غمزوا مني قنـاة صـلـيبة=شديداً على م رامها الكسر عودها
وكنت لها حصناً، وكهفـاً، جـنة=يؤول إلي، كهلهـا، وولـيدهـا
فمالوا إلى السوءات، ثم تعـذروا=وهل يفعل السوءات إلا مريدها؟
فأوردت كرمانيها الموت عـنـوة=كذاك منايا الناس يدنو بعـيدهـا
وبقتل نصر للكرماني زعيم الازد ، وانضمام الاخيرين ومعهم ربيعة الى الدعوة العباسية وقاتلوا في صفوفها ، بات واضحا ان نجم الامويين قد بدأ بالغياب ،فهرب نصر بعدها الى قرية همذان ومرض بها وتوفي سنة 131هـ ، وتزلزلت اركان الدولة الاموية ، وهرب مروان بن محمد الى مصر ولحقته الجيوش العباسية فيما بعد وقتل ، وزحفت جيوش بني العباس الى العراق واستولت عليه سنة 131هـ بجيش اغلبه من ربيعة والأزد وطيء ، وعادت ربيعة الى ديارها في العراق عزيزة الجانب بعد ان زال الولاة المتعصبون من قيس، وتقلص النفوذ القيسي في العراق وانكفت معظم بطونهم الى نجد وخاصة بني نمير وكلاب وعقيل ، وليس ادل من ان الربعيين تأثروا بدعوات العباسيين من كون داعي دعاتهم السريين في الكوفة هو ميسر العبدي من عبدالقيس ربيعة ، وكذلك وجود شخصيات ربعية ضمن النقباء الاثني عشر المراقبين من قبل الدعاة والمرتبطين فيهم منذ انطلاق دعوتهم بين عامي 100هـ و 105هـ ، منهم خالد بن ابراهيم الذهلي الشيباني ، وشبل بن طهمان الحنفي وهو من موالي حنيفة وغيرهم ..
أدرك العباسيون ان الوقت قد حان لاستئصال بني امية ،فحركوا قواتهم وقبائلهم الموالية صوب العراق وبلاد ربيعة ، وتساقط امامهم ولاة بني امية الواحد تلو الآخر بعد مقاومة يائسة ، ويهمنا هنا ان نركز على يزيد بن ابي هبيرة والذي كان معن بن زائدة الشيباني احد اهم قواده ، وقد واجه قوات بني العباس ببلاد ربيعة ومعه معن الا انهم هزموا سنة 132هـ ، واستسلم ابن ابي هبيرة ، اما معن فقد اختفى عن الانظار خوفا من ابي مسلم الخراساني وقواد الدولة العباسية الذي قتلوا كل الاسرى من قواد بني امية او من قاتل معهم ، وظل معن متخفياً حتى عهد الخليفة العباسي الثاني ابو جعفر المنصور الذي قربه وعفا عنه واصبح له شأن بعد ذلك اذ انتقلت مشيخة ربيعة اليه وفي آل بيته في العصر العباسي.
هذه اذن تلخيص لدور ربيعة والأزد واحرار العرب عندما تعرضوا لاستفزاز ولاة حمقى مثل نصر بن سيار الذي لاتزال بعض المراجع الحديثة تتحدث عنه بإعجاب رغم كل اخطاءه الجسيمة والتي أدت الى انهيار البيت الاموي، وهي سنة الله في خلقه فكانت الخيرة للعرب في آل عباس الهاشميين الذي كان لهم دور رائع في الحضارة العربية الإسلامية.