يسمونها الاسر المتحضرة ، وهو مصطلح يوحي بشيء من العظمة والتميز ، لكن التحضر يبقى مصطلح يحمل ابعاداً اكثر من التفسير الللغوي والاصطلاحي لكلمة ( متحضر) ، انه مصطلح تم اطلاقه ونشره في الادبيات الاجتماعية في المملكة ، وذلك لوصف نسيج كبير من المجتمع يقابله مصطلح ( البدو) ، وهذا الاخير هو قناع لكلمة اخرى هي (القبائل).
كانت البداية من كتاب للشيخ العلامة حمد الجاسر ( جمهرة انساب الاسر المتحضرة ) ، وهو وصف مخصص لعشرات من القبائل الصغيرة التي لايتعدى عدد المنتمين لها بضعة مئات من الافراد ، بعكس القبائل الكبرى التي تصل اعداد المنتمين لها عدة الوف من البشر .
في كتاب الجاسر ومن تبعه تم تقديم نظرة قلقة ومتناقضة ، بدلا من التبعثر حول مأزق المفاهيم والمصطلحات لشرح حالة هذه الاسر !!
الاسئلة التي طرحت : هل هذه التشكيلة من عشرات الأسر هي قبائل بحد ذاتها ؟ ام عوائلا منتمية للقبائل الموجودة فعلا على الواقع !!؟
وقع الخيار في مراحله الاولية فيما يبدو على الشق الثاني من السؤال ، وهو اعتبار هذه الاسر من صميم القبائل الموجودة ، ولحل المازق الانتمائي الحقيقي لدى الاسر تم ابتكار مصطلح ( التحضر) لتمييز هذه الاسر عن النسيج القبلي، في مقابل وصف الآخرين من العوائل المنتمية للقبيلة بأنهم (بدو لم يتحضروا) ، لكن ذلك ( التحضر) وعكسه( التبدي) لم يتم توضيحه بشكل كافي لجعلنا نتفهم هذا التفريق رغم توحد النمطي المعيشي للجميع !!
ان واقع جزيرة العرب في الاربع قرون الماضية لينفي بشدة هذه التصورات الغير حقيقية عن الحياة الاجتماعية في بلادنا ، وتصنيفات شرائح المجتمع فيها ، فواقع مجتمع منطقة الصحراء يقول ان الجميع بها هم : بادية ، أي ذوي حياة بدائية خالية من التعقيد ، فهذه الاسر التي توصف بالمتحضرة ليست كذلك بالفعل ، انما هي قبائل اخرى تضاف للتشكيلة القبلية الموجودة والتي تحتوي على اسماء مشهورة ، والفرق الحقيقي بينها وبين القبائل انما هو في الدرجة وليس النوع او النمط المعيشي !
الدرجة هنا تعني ان للقبائل بحكم كثرتها وكونها تؤمن بمبدأ اوسع من الانتماء الضيق لأجداد قريبي العهد ، كما أن القبائل تلزم نفسها بمموعة معقدة من الدساتير الحضارية التي تنظم العلاقات فيما بينها ، مع وجود القوة اللازمة لتنفيذ هذه الدساتير وحمايتها ، وهذا الامر لم يكن متاحا للأسر الصغيرة الاقل درجة ، فكانت القبائل تطلق عليه لقب ( اهل القرى) او ( المزارعون)
ثمة اتجاه آخر بدأ في النشوء حول الجذور التاريخية للعوائل الصغيرة ( القبائل القليلة العد والمحدودة الانتشار) ، هذا الاتجاه هو الزعم بأن هذه القبائل او الاسر هي بقايا للقبائل القديمة المذكورة في سجلات التراث العربي ولم تعد اسمائها متداولة ،وهذا الاتجاه هو الآخر من انشاء الشيخ حمد الجاسر ، الذي حاول تسويقه بكل مايستطيع قبل عدة عقود الا انه جوبه بمعارضة ابناء الاسر ذاتها، كونهم كانو يدركون ان عدم تسويق انتماآتهم القبلية للقبائل المعروفة والموجودة سيبضر بهم كثيرا ، وسيجعل الناس تركز على فروق الدرجة بينهم وبين القبائل وتخلطهم على قدم المسواة مع الاسر المنتمية للطبقات العرب الغير نبلاء .
كانت قبيلة عنزة الاشهر حضورا في التراث العربي في العصور الاخيرة لدى سكان شبه جزيرة العرب وحتى الشام والعراق ، ومع ظهور الحركة السلفية التي قادتها اسرة آل سعود وانتماء هولاء لقبيلة عنزة فكان لهذا الامر العامل الاكبر لجعل قبيلة عنزة الوائلية المعاصرة هي اكثر قبيلة تعرضت لدعاوي الاسر في النسب اليها في تلك المنطقة ، الى الحد الذي جعل اسرة ( آل سعود ) ذاتها جزء من نسيج تلك الاسر التي ادعت الانتماء الى قبيلة عنزة .
المفارقة هي تكرس الانتماء المزعوم لعشرات من الاسر الى قبيلة عنزة في الزمن الذي حاول الشيخ الجاسر اعطاء هذه الاسر نسيجا خاصا ، عبر اطلاق مفهوم ( التحضر) ، ثم محاولة ابعاد هذه الاسر عن الزعم بوجودها على الخارطة الوائلية المعاصرة ، والادعاء بانتمااءت قديمة لهذه الاسر الى الوائليين القدامى الذين تحضروا !!
أي بدلا من ان يقولو نحن من قبيلة عنزة الوائلية المعاصرة فليقولو : نحن من بني حنيفة ، او بكر ، او تغلب .. الخ
أي لماذا ندفع ضريبة الانتماء الى نسيج موحد للحاليين ؟ في حين نستطيع حل مأزق الانتماء القبلي عبر القول : نحن وائليون قدامى اقدم من هولاء البادية ! ونحن المتحضرون طبعا !
وقد سبق وبينا ان كلمة ( حضر ) او ( اسر متحضرة) ليست دقيقة ، والصحيح ان هذه الاسر او الاغلبية منها انما هي قبائل قروية مستقلة باسمائها المعاصرة ، ولادخل ( للتحضر) او ( التبدي) فيما يتم زعمه .
بعد وفاة الشيخ الجاسر رحمه الله جاء الى الساحة عدة اشخاص لتطوير نظريات الجاسر ، من ابرز هولاء : محمد عمر العقيل ( ابو عقيل الظاهري) ، وراشد بن عساكر وغيرهم ، العقيل حاول تسويق مافشل الجاسر في تسويقه ، وهو اطلاق عدد من الدراسات والبحوث كما اطلق مجلة الدرعية ، وذلك في محاولة لخلق القبائل القديمة من جديد ، وبحرفية ماكُتب عنها في كتب التراث القديمة ، وضم الاسر المعاصرة اليها بما فيها اسرة آل سعود الحاكمة، التي اختير لها ان تكون من بني حنيفة ، جنبا الى جنب مع عدة اسر متحضرة تقول انها من بني حنيفة ايضاً!
وهذا طبع يهدف الى عزل الاسرة عن نسيجها القبلي الى صهرها في بوتقة الاسر المتحضرة التي استطاعت ان تتحكم بقابائل البدوية المتخلفة!
وكان لابد من اللجوء الى التاريخ لتفصيله على مقاس هذه النظرية ، رغم ان التاريخ والواقع يؤكد عدم وجود قبيلة بهذا الاسم .
اما الانتماء الى قبيلة عنزة فتم تبريره عند الشيخ الجاسر ، ففي الوقت الذي كتب الجاسر نظريته كان حائرا ومرتبكا ، وهو يسوق نظرية انتماء آل سعود الى بني حنيفه بحذر شديد ، اذ انه حرص على تأكيد انتمائهم الوائلي بصورته المعاصرة ( أي من قبيلة عنزة المعاصرة) ، غير انه عاد فقال لامانع من أن انتماء آل سعود الحقيقي هو انهم من بني حنيفة وانهم بذلك يكونو وائليين على كل حال ، واظطر هنا الجاسر الى الاعتراف بقوة من سماهم ( البادية ) ، وان الحاضرة لجاو اليهم وانتسبو لهم !!!
هذه الضريبة لم يكن محمد عمر العقيل او راشد بن عساكر على استعداد لدفعها ، فاعتبرا ان بني حنيفة قبيلة مستقلة تماماً عن قبيلة عنزة الوائلية المعاصرة ، وان الاخيرة تدعي الانتساب الى الوائلية !!!
والامير سلمان بن عبد العزيز كان على علم بكل هذه النظريات ، الا انه تبنى كما بدا لنا نظريات الجاسر وضرائبه ، مع ميول واضحة لنظريات العقيل اتضحت في اتاحة الفرصة للعقيل ان يحقق كتاب ( مثير الوجد ) لتصدره دارة الملك عبد العزيز !
وهذا جعلنا نتسائل عن حقيقة مايجري في ردهات دارة المك عبد العزيز ، فهل هي دائرة بحث تاريخية موضوعية ، ام دائرة لرسم التخيلات العجيبة والتي تشبه الاساطير وتقديمها بقوالب علمية ؟!
من حق أي كان الزعم بتاريخ او نسب غير حقيقي ، لكن عندما تتقاطع هذه الادعاءات مع قوم آخرين فلهم الحق في الرد والله من وراء القصد .