منذ مدة غير طويلة – وكما يُثار من وقت لآخر- أُعيد طرح افكار صياغة الانتماء في بلادنا المملكة العربية السعودية ، والانتماء بحد ذاته كان ولايزال طبيعة بشرية ، مردها ان الانسان كائن حي اجتماعي لا يمكن ان يعش الا وسط جماعة من بني جنسه ، شرط ان تمتلك تلك الجماعة قاسم مشترك يميزها عن غيرها ، وفي بلادنا المملكة السعودية تمثل مسألة الانتماء معضلة كبيرة ، ويحدث الخلط بينها وبين الولاء السياسي. فمنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر اطلت علينا اقلام وشخصيات تؤكد لنا ان هناك انتماءات فرعية مُهمشة ، واخرى بارزة ، فأهل جدة ومكة المكرمة يقولون ان هويتهم وانتمائهم هو للحجاز ، ومقابل ذلك ظهرت الفئة النجدية لتؤكد ان لنجد ايضاً خصوصية ثقافية وحضارية ، الاتجاه الحجازي يعبر عن استيائه من نجد وحكم نجد حتى وصل به الامر الى العائلة المالكة ذاتها والدعوة السلفية التي ينظر اغلب الشعب السعودي الى رائدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب بكل اجلال وتقدير ، وربما اكثر من الاسرة المالكة الكريمة. في مقابل ذلك فان مروجي للهوية النجدية لا يعانون من هاجس الاصطدام بقوة السلطة ، لانهم ببساطة يعتبرون بلادهم مركز لهذه القوة والسلطة ، وان الاسرة المالكة جزء من نسيجهم الاجتماعي والثقافي .القاسم المشترك بين هذه الهويات المصطنعة هو انه لا تعترف باي هويات اخرى خارج نطاقها ، بل وتعتبر أي ترويج لمعايير انتماء اخرى مثل القبيلة او الدين – انما هو تخلف وضيق افق !فهناك العديد من الشرائح تعتبر الدين والمذهب هو معيار الانتماء الاول ، وتعتبر الولاء للوطن نوع من الوثنية ، وهناك العائلة أو القبيلة التي تعتبر في نظري هي المعيار الحقيقي للانتماء الصادق البعيد عن التكلف .فمنذ ان خلق العرب ووجد شعب بهذا الاسم كانت القبيلة هي اساس أي انتماء فرعي تحت مسمى الانتماء الاكبر الى العرب كقوم ، هذا هو انتمائنا وهويتنا الحقيقية، وما يحصل من تنميط للأفكار عند من يسمون انفسهم نجديين او حجازيين ما هو الا محاولة تشبث وهمية بالأرض التي لم تنبت يوماً احدا من البشر .
صراع لاصطناع هويات الغير
الغريب أن من يروج لثقافة الحجاز واهل الحجاز ليس من الحجاز ، طوائف عديدة من البشر نزلت هذه المنطقة لظروف دينية وتجارية وتنمطت بالثقافة واللغة السائدة التي هي العربية ، ونقلت ايضاً الشيء الكثير من آثارها الثقافية والحضارية من بلدانها الاصلية الى الحجاز والى جزيرة العرب كلها ، وهذا امر لا ضير فيه ولكن : اهل الحجاز من ابناء القبائل العربية لطالما اتهموا هذه الفئات باها دخيلة على العرب ، ولطالما دافعت هذه الفئات عن نفسها وما يهمنا هنا ليس هو مبدأ الدفاع ، فنحن لانقبل الاساءة ، لكن ماهي طريقة هذا الدفاع ؟ لم تدافع هذه الفئات عن ثقافتها وموروثها الاصيل ، او علاقتها بلدانها واقوامها الاصليين ، بل عمدت الى تأصيل نفسها بالمنطقة والادعاء بانها تعود بجذورها الى اصول تلك القبائل العربية التي سكنت الحجاز منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم !! في مقابلة تلفزيونية في احدى المحطات كانت الضيوف يتحدثون عن الزواج وتكافؤ النسب الذي هو عادة عربية معروفة وبل مؤصلة اسلامياً ، احدى الضيفات كان من انصار ثقافة الحجاز ادعت انها من قبيلة قريش ومع ذلك فمسألة تكافؤ النسب عند قبيلتها غير ذات اهمية على حد تعبيرها ، في حين كان يجلس الى الجوار منها احد ابناء القبائل العربية من الحجاز وقد رفض الاجابة عند سؤاله اذا كان يقبل بتزويج اهل بيته من اللاقبيلي !ويحاول انصار ما يسمى بالحجاز وهويته الخاصة الوهمية ان يقدمون شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم على انه افضل ما انجبه الحجاز من شخصيات ، وبالطبع يضاف الى الرسول الكريم تلك الرموز الكبيرة الخالدة من الصحابة رضي الله عنهم !ورغم ان القاعدة الانتمائية لحزب هوية الحجاز المصطنعة تكمن في الحجاز الاقليمي أي انتماء مناطقي الا انهم مع ذلك يسقطون اغلب مناطق الحجاز في خارطتهم المرسومة برؤوسهم ، فالشريط الساحلي الممتد من تبوك شمالا وحتى قبل ينبع لا يعتبر حجازا بنظرهم ، نظرا لان اغلب سكان هذه المناطق من القبليين العرب الذي لا انتماء لهم وربما لادين بنظرهم طبعاً !واخطر ما روج له انصار ثقافة الحجاز هي اعتبار بعض البدع الدينية التي ارتبط بهذه الشعوب قديما قبل قدومها وتسويقها على أنها رث اسلامي حجازي خالص تمت محاربته من قبل من اسموهم المحتلين النجديين الوهابيين
الهوية النجدية : ردة فعل ام حقيقة موجودة ؟!
اخذت الهوية النجدية تعبر عن نفسها منذ فترة قصيرة فيما بدا وكأنه ردة فعل على انصار هوية الحجاز ، والمطالع لصحيفة الرياض كل يوم جمعة يجد سيلاً من المقالات عن التاريخ الاسلامي والعربي يتم التركيز فيه على الشخصيات العربية التي شاءت الاقدار ان تكون قد ظهرت من نجد ، اولا لها علاقة على نحو ما بنجد ، ويتم تقديمها للقراء كشخصيات نجدية واختزال انتمائها القبلي وربما تغييره او تزييفه لينتمي الى نجد فقط ولا يرتبط بغيرها .الحجازيون يقولون ان نجد لم تكن يوما مركزا للحضارة ، بل موطناً لمن يسمونهم بدواً واعراباً كفاراً قبل ان يأتيهم نور الاسلام من الحجاز ، ولا يتورعون عن نشر احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو ( نجد قرن الشيطان( كما ان الحجازيين يقولون ان نجد احتلت الحجاز ، وصدرت له ثقافة البداوة والرعونة والتشدد الديني الذي ليس الا عادات قبلية اقحمها اهل نجد في الدين الاسلامي وهو منها براء!! وانتشرت لدى البعض من نجد حمى الانتساب الى القبائل بمسمياتها القديمة وتجاهل القبائل المعاصرة ، لان القبائل المعاصرة لا تعتد بالانتماء المناطقي كثيرا ، فقبائل كبرى مثل عتيبة ومطير وحرب وعنزة وقحطان وشمر تمتد وتنتشر في كل المناطق، وفي ذهن ابنائها فقط الانتماء الى القبيلة وليس الاقليم ، ونتيجة لذلك فقد حارب القرويون من اهل نجد الانتماء الى القبيلة ، حتى ان كاتبا اسمه خالد الجريسي قد وضع كتابا اسماه (العصبية القبلية من المنظور الإسلامي) حاول فيه ان يبين ان مجرد الانتماء للقبيلة هو امر مرفوض دينياً ! كما حاول ان يقول ان اوعية انتمائية مثل القبيلة مبنية على اسس غير صحية ! والمُلاحظ ان آراء الجريسي ليست فردية ، حيث انها نتيجة ظهور التيار الانتمائي الى نجد الاقليم ، الذي ظهر في السنوات الاخيرة على شكل عدة مظاهر ، منها ظاهرة الانتماء الى قبيلة قديمة ، ففي الوقت الذي كانت فيه اسر في منطقة نجد وقراها تجاهد لإثبات نسبها الى قبائل معاصرة ، تغيرت مؤخرا هذه النظرة ، لتصبح مثل نظرائها الحجازيين لتنتمي للإقليم اولا، ولقبائل قديمة لم تعد موجودة مثل ( بني حنيفة وغفار وبني هلال) ثانياً ، والانتماء للقبائل القديمة الهدف منه هو محاولة للرد على القبائل المعاصرة اذا زعمت انها تمثل العرب او انها مادة الاسلام بالإضافة الى هذه الهويات المصطنعة تطل علينا هويتان مُغيبتان كما يقول اصحابها ، وهي هوية اقليم عسير ، وهوية الاحساء او القطيف ، وكل هذه الهويات مثل شقيقاتها الحجازية والنجدية ، يُعاب عليها عدم الشفافية والوضوح في التعبير عن الهوية الحقيقية ، فأهل عسير جزء من الاقليم اليمني ثقافة وحضارة ، واهل الاحساء مرادهم يتركز حول حماية مذهب التشيع عبر الارتباط بإيران ، ولو كل ثقافة من هذه الثقافات عبرت عن نفسها فعلا لما انتقدنا هذا الاصطناع في هذه الهويات المُغيبة تأتينا بعد ذلك ازمة الانتماء الى الوطن السعودي ، ولكن ثمة تساؤلات حول حقيقة هذا الانتماء : فهل هو ولاء ام انتماء ؟ هو فعلا اقرب الى كونه ولاء لحكم اسرة هي القاسم المشترك الاكبر بين رعيتها ، الذين يحملون اسمها ، ولكن الخطاب الوطني المعاصر يريد ان يعطي الدولة الحاكمة بعدا إيديولوجيا او خصوصيات ثقافية ، تتميز بها عن شعب ضمن نطاق حكام آخرين ، فأبناء قبيلة واحدة على سبيل المثال هم اقرب ثقافيا الى بعضهم حتى لو كانو ضمن دولتين مختلفتين ، فالوطن اذن هو الولاء للحاكم وليس له أبعاد اخرى ، ومحاولة اعطاء الولاء السياسي ابعاد اخرى ثقافية ستؤدي حتما الى تهميش الهويات والانتماءات الفرعية ، وبالتالي تشجيعها على الظهور عبر الاصطناع، وهو ما لاحظناه عند ما يسمون انفسهم النجديين والحجازيين ، بل حتى الهويات الاخرى لدينا مثل : الاحساء والقطيف او عسير واليمن ، ومن ثم تهميش او اقلال شأن الهويات الحقيقية ان هي عبرت عن نفسها .ولعل هذه المعضلة ليست خاصة لدينا في المملكة العربية السعودية ، بل هي عامة في الوطن العربي ، ربما لدينا في السعودية معضلة عدم وجود اسم جغرافي او تاريخي موحد للكيان السياسي الذي نتبعه ، فمناهج التعليم والاعلام تحاول ان تسوق دائما ان كلمة ( سعودي ) او ( كويتي) او ( قطري) … الخ انها تعني شعبا محدد الصفات ، وأن القواسم الثقافية المشتركة بين ابنائه كفيلة بالنظرة اليه كشعب ذا خصوصية ، والمراقب للخطاب الاعلامي لدينا سيلحظ بوضوح محاولة اعطاء الجنسية السياسية ابعادا وخصوصية حضارية وثقافية تتعلق بالعادات والتقاليد وحتى الموسيقى والرياضة ( المنتخب الوطني) والطعام واللباس ! فيقال كبسة سعودية ، وثوب سعودي وآخر قطري وغيره كويتي !! ولا يعدو هذا التخصيص الذي نلاحظه في الخطاب الاعلامي والتعليمي الا تكبير هوية النخبة التي ينتمي اليها الحاكم ، ويتم تعميمها كثقافة وطنية لكل المناطق الجغرافية على امتداد رقعة سيادة الدولة .